الكاتبة اليسارية تعود بكتاب يدين الرأسمالية والاقتـصاد النيوليبرالي | نعومي كلاين: الصهيونية حوّلت «الصــدمة» اليهودية إلى سلاح سياسي
في نيسان (أبريل) 2024، انتشر فيديو للكاتبة الكندية نعومي كلاين (1970) على منصات التواصل الاجتماعي، وهي تلقي خطاباً في مناسبة عيد الفصح اليهودي في أحد شوارع ولاية نيويورك الأميركية، ضمن نشاط يطالب بوقف تسليح «إسرائيل». كان المتظاهرون متجمعين بالقرب من منزل السيناتور الأميركي اليهودي تشاك شومر الذي أسهم في تمرير مشروع مساعدات بقيمة 26 مليار دولار للاحتلال الإسرائيلي، بينما وجّه في العلن انتقادات ــ غير مجدية ــ لرئيس وزراء العدو الصهيوني متهماً إياه بأنه يعرقل عملية «السلام» بين الشعبين.
استغلّت أستاذة العدالة المناخية في «جامعة بريتيش كولومبيا» تلك المناسبة التي تعد رمزاً للتحرر والخلاص من العبودية، لتدعو اليهود إلى التخلص من دنس الصهيونية التي ترتكب الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة تحت اسم اليهودية: «كثير من شعبنا يعبدون صنماً زائفاً مرة أخرى، يبتهجون به، ويسكرون به، ويتدنسون به، وذلك الصنم الزائف يسمى الصهيونية. إنه وثن زائف أخذ أهم قصص الكتاب المقدس عن العدالة والتحرر من العبودية وقصة عيد الفصح، وحوّلها إلى أسلحة وحشية لسرقة الأراضي واستعمارها (جاعلاً منها) خارطة طريق للتطهير العرقي والإبادة الجماعية. إنه صنم زائف أخذ فكرة الأراضي الموعودة التي تعتبر رمزاً للتحرر الإنساني الذي انتقل عبر الأديان إلى كل ركن من أركان هذا العالم، وتجرّأ على تحويلها إلى صك بيع لدولة عرقية عسكرية. إنّ تصدير الصهيونية السياسية للتحرر هو بحد ذاته مدنّس، فمن بدايتها تطلب الأمر طرداً جماعياً للفلسطينيين من بيوتهم وأراضي أجدادهم خلال النكبة... إنها صنم زائف يساوي الحرية اليهودية بالقنابل العنقودية التي تقتل وتشوّه الأطفال الفلسطينيين وتقوم بخيانة كل القيم اليهودية».
لم يكن خطاب نعومي كلاين الجريء، جديداً بالنسبة إلى موقفها من القضية الفلسطينية، فالكاتبة اليسارية والصحافية الاستقصائية أعلنت مراراً موقفها المعادي للاحتلال الصهيوني وجرائمه المستمرة. ويمكن القول إنّها لم تفوّت أي مناسبة حاشدة أو فرصة إعلامية إلا وسعَت عبرها إلى نقد سياسات الاستعمار الإسرائيلي، العسكرية والمدنية، الممارسة على الشعب الفلسطيني؛ وإن كانت المناسبة لا تتعلّق بفلسطين بصورة مباشرة. في مقابلة أجرتها معها مجلة AnOther حول كتابها الأخير «الشبيه» Doppelganger (2023) الأكثر مبيعاً وفقاً لقائمة «نيويورك تايمز»، أخذت كلاين الكرة إلى ملعبها. ففي الوقت الذي كانت فيه أسئلة المجلة المتخصّصة بالأزياء والفن وبعض المواضيع الثقافية العامة، مفتوحة وحمّالة أوجه، اختارت كلاين أن تجيب بكلامٍ مباشر يسمّي الأشياء بمسمّياتها، مبتعدةً عن الغموض والترميز. مثلاً أجابت عن سؤال محررة المجلة دومينيك سيسلي المتعلق بهوس الناس بمنصات التواصل الاجتماعي وربطه بـِ«الأحداث الكارثية التي تجري في العالم»، بقولها: «حسناً، أنا وأنت نتحدث في اليوم الذي أمرت فيه إسرائيل بترحيل جماعي لأكثر من مليون شخص في غزة. يحدث ذلك في سياق حملة قصف غير مسبوقة، بينما يتحدث القادة الإسرائيليون عن كونهم (الفلسطينيين) «حيوانات بشرية». ولهذا، لدينا اتفاقية الإبادة الجماعية، لمنع ذلك بالضبط. وأعتقد أن الناس على وسائل التواصل الاجتماعي يتصرفون انطلاقاً من خوف عميق. الفلسطينيون ومؤيدوهم يخشون الإبادة، وأعتقد أنّه حتى مؤيدي الإبادة الجماعية خائفون مما يدعمونه، لذا عليهم إسقاط كل الشر على الآخر. هذه هي «سياسة الشبيه»، حيث نعرض نقاءنا، ثم نُسقط كل ما هو سلبي على الآخر المكروه».
اللافت في المقابلة عينها أنّ كلاين اعتذرت عن تسرّعها في كتابة مقالها في صحيفة «الغارديان» البريطانية فور السابع من أكتوبر 2023، الذي يبدو أنّه كان في نسخته الأصلية (قبل أن يجري تعديله على الموقع الإلكتروني للصحيفة بطلبٍ منها ــ راجع «الغارديان» 11/10/2024) يدين عملية «طوفان الأقصى» ويتعاطف بالكامل مع «الضحايا المدنيين» على حد توصيفها. لكن بعد مدة قصيرة من نشر المقال، أدركت صاحبة الكتاب الشهير «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» (2009) الذي تُرجم إلى حوالى 25 لغة، أنّ حكومة الاحتلال استغلّت ذلك اليوم لـ «تبرير جريمة حرب واسعة النطاق ومستمرة في غزة باسم حماية الشعب اليهودي». وقالت إنها تشعر بالأسف الشديد لمجرد فكرة أنها ربما تكون «قد أسهمت بأي شكل من الأشكال في الألم والخيانة اللذين يعيشهما الفلسطينيون الآن». ومن المرجّح أنّها استعجلت كتابة مقالها ونشره تخوّفاً من احتمال ضغط اللوبي اليهودي (البريطاني) ضدها، فقد أشارت في كلامها إلى عواقب تهمة «معاداة السامية» وتداعياتها التي تعرّض لها الزعيم السابق لحزب العمال الاشتراكي جيرمي كوربن خلال الانتخابات البريطانية قبل سنوات قليلة، عندما هاجمه كبير حاخامات المملكة المتحدة أفرايم ميرفس. كما ألقت محاضرة في «جامعة سوارثمور» في ولاية بنسلفانيا الأميركية حملت عنوان «إسرائيل، فلسطين، وتأثير الشبيه». ركّزت الباحثة الكندية على المقاربة بين النظام الفاشي في أوروبا وتجربة الحزب النازي ورؤية هتلر لتفوق العرق الآري «الذي استلهم أفكاره من الفصل العنصري وحركات تحسين النسل (Eugenics) التي فرضت إجراء تعقيم للأشخاص الذين يصنّفون بأنهم ذوو الأصول الجينية الأدنى وقوانين جيم كرو الأميركية العنصرية»، وبين الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في غزة. استندَت كلاين في مطلع محاضرتها إلى مجموعة من التصريحات لشخصيات سياسية بارزة مثل الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، حيث قام كلاهما كل على حدة، بتشبيه ما يقوم به الاحتلال في غزة بما فعله النازيون باليهود. وأضافت كلاين بأنّ حكومة الاحتلال ردّت على لولا بوصفه persona non grata أي شخص غير مرغوب فيه أو غير مرحّب به، ثم قامت بعد ذلك «بمسرحية ديبلوماسية غير تقليدية» حيث استدعى وزير خارجية الاحتلال السفير البرازيلي فيديريكو ماير «لتوبيخه»، ولكنه اختار موقعاً غريباً جداً للاجتماع الديبلوماسي؛ «ياد فاشيم» أي متحف الهولوكوست في القدس. وتعلّق الباحثة على هذه الحادثة بقولها «إن المكان له المنطق الخاص به: الأشخاص الذين عانوا من الإبادة، لا يمكنهم أن يرتكبوا إبادة جماعية».
هناك مقابلة أخرى لنعومي كلاين مع الإعلامي مهدي حسن ذي الأصول الهندية، الذي فصلته قناة MSNBC وأوقفت برنامجه The Mehdi Hasan Show بعد أسئلته «المحرجة» لمستشار رئيس وزراء الاحتلال مارك ريغيف عن مصداقية ما تنشره القوات الصهيوني، مشيراً إلى فيديو اقتحام مستشفى مدني في غزة وعرض جدول بأيام الأسبوع باللغة العربية مدعياً أنه يحوي أسماء مناوبة «الإرهابيين»؛ حسب وصف المتحدث باسم قوات الاحتلال. بعد تلك الحادثة، أنشأ الصحافي منظمته الإعلامية الخاصة لتكون «صحافة مستقلة غير مفلترة» تحمل اسم «زيتيو Zeteo» (مشتق من اليونانية بمعنى البحث والسعي في إشارة إلى العمل الصحافي الحر). تضم المبادرة عدداً من الصحافيين المساهمين من بينهم نعومي كلاين التي تظهر ضمن برنامج «غير مصدوم/ Unshocked». تعلّق كلاين في المقابلة على وصف نتنياهو للطلاب المتظاهرين في «جامعة كولومبيا» بالـ«نازيين»، بقولها: «عندما يتعلّق الأمر بنتنياهو، لا أحد أكثر مهارة في استغلال الصدمة اليهودية، والصدمة التاريخية، وتحويلها إلى سلاح سياسي لمصلحته الخاصة».
تركز كلاين في بداية حديثها على أهمية دراسة التاريخ والحاجة إلى مراجعة الماضي حتى نتمكن من «توجيه أنفسنا في المكان والزمان... ونفهم كيف وصلنا إلى هذه اللحظة من الرعب»، وتشير إلى وثيقة/مذكرة تاريخية حول وعد بلفور (1917) صدرت عن العضو اليهودي الوحيد في مجلس الوزراء البريطاني إدوارد مونتغيو، المعارض الأبرز لوعد بلفور، الذي قال «إن فكرة إنشاء وطن لليهود في فلسطين هي بحد ذاتها معادية للسامية»، كان مونتيغو قلقاً، حسب تعبير كلاين، من أنّ إنشاء دولة لليهود في فلسطين ستجعل حتماً اليهود الآخرين خارجها «مواطنين من الدرجة الثانية» في أي بلدٍ كانوا فيه. واعتبر حينها أنّ اليهود القادمين من أنحاء العالم، من بريطانيا وإسبانيا والعراق على سبيل المثال، رغم أنهم يشتركون في ديانة واحدة، إلا أنهم ليسوا أمة واحدة، فهم يتحدثون لغات مختلفة وهناك فوارق ثقافية كبيرة بينهم لا يمكن تجاهلها، وتنبّأ بأن «فلسطين حينها ستكون غيتو العالم لليهود»، وفقاً لما قالته كلاين في اقتباس مباشر عنه.
تصف الغربيين بأنّهم في دعمهم للإبادة ما هم إلّا «مرآة تعكس المخزون النازي داخلهم»
ويمكن رصد أولى مشاركات مؤلفة كتاب «لا شعار» No Logo (1999) الذي ترجم إلى ثلاثين لغة ووزع في أنحاء العالم وجعل اسم نعومي كلاين بارزاً بين الكتّاب والمؤلفين، إلى عام 2009 حين زارت الباحثة فلسطين لإجراء عدد من المحاضرات حول كتابها الثاني الأبرز «عقيدة الصدمة» (2007)، في مناسبة ترجمة الكتاب إلى العبرية. تزامنت زيارتها مع العدوان الصهيوني على غزة، فوجدت الفرصة سانحة لإعلان مقاطعتها للاستعمار الإسرائيلي ودعت الجميع إلى المقاطعة بسبب السياسات العنصرية تجاه الفلسطينيين، مؤكدةً أنّ إجراءات حكومة الاحتلال بحق الفلسطينيين تتوافق مع التعريف الدولي للفصل العنصري. وفي محاضرتها في مدينة حيفا، وضّحت الناشطة اليسارية أنّ الجدوى من المقاطعة ليست محصورة فقط في الضغط على «إسرائيل» لتطبيق القرارات الدولية وإنهاء الاحتلال، بل «إنّ المقاطعة ضرورة للحفاظ على إنسانيتنا وعدم التطبيع مع الموت وتحويل غير الطبيعي إلى طبيعي». لكنّ كلاين ميّزت بين مقاطعة الاحتلال ومؤسساته الأكاديمية والاقتصادية، وبين الكتاب والأكاديميين الأفراد، ووضّحت أنّ زيارتها لا تتعارض مع المقاطعة لأنها تهدف إلى دعم الفلسطينيين وليس «التعاطف مع الإسرائيليين». كما تحدثت الكاتبة عن الحرب العنيفة على قطاع غزة (2009) وعن بعض الأشخاص الذين قابلتهم هناك مع زوجها المخرج وصانع الأفلام الوثائقية آفي لويس، وأدركت أكثر عبر قصصهم وحالهم درجة العنف التي يمارسها الصهاينة على سكان القطاع. روت كلاين قصة رجل غزاوي كان في السيارة مع ولديه، فأطلق جنود الاحتلال النار عليهم وأصابوه وابنه، ثم رفضوا السماح له بالوصول إلى المستشفى حتى توفي الولد. أضافت كلاين أنّ الأب يحاول مقاومة القهر والجنون عبر الكتابة، ولأنّ أدوات الكتابة ممنوعة بسبب الحصار الإسرائيلي للقطاع، لم يجد دفتراً يدوّن عليه قصته سوى قصاصات من دفتر «باربي« (الأخبار 14/7/2009).
ما يميّز الباحثة المناهضة للرأسمالية الليبرالية أنّها تستغل الفرص، سواء في كتبها المتعددة أو محاضراتها الأكاديمية أو حتى أمام الحشود في الشوارع، للقول بالفم الملآن إنّها مناهضة لسياسات الفصل العنصري وللمشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة باعتباره مشروعاً اقتصادياً يجني أرباحاً هائلة عبر الحروب المستمرة. كما تبرع في ربط أي موضوع ثقافي، سياسي، بيئي، اقتصادي، بالقضية والمقاومة الفلسطينية التي تعتبرها كلاين أمراً طبيعياً لشعبٍ سُلبت منه أراضيه وبيوته وهُجِّر مئات الآلاف منه خلال النكبة، من أجل إعلان «دولة اليهود الزائفة»؛ فالصهيونية علمانية وليست يهودية كما يروّج الصهاينة باستمرار. وفي أحد كتبها عن المناخ، تشير كلاين إلى أن الفلاح الفلسطيني كان يحمي المناخ عبر الزراعة وممارسة حياته اليومية ورعي المواشي وحماية الأشجار البعلية وتلك التي تنمو لوحدها في الأرض، لكن الاحتلال جرف الأراضي واقتلع الكثير من الأشجار حتى يبني المستعمرات ما أثر سلباً على المناخ. تصرّح الناشطة اليسارية باستمرار أنّ ما تقوم به حكومة العدو هو إبادة جماعية محضّرة، ينفّذها جيشه بحماية من الدول الغربية الداعمة للاستعمار، وتصف الغربيين بأنّهم في دعمهم للإبادة ما هم إلّا «مرآة تعكس المخزون النازي داخلهم».
نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 31-8-2024