«السوق السوداء للدبلوماسية»... بين ماركيز وعمر الشريف وكيسنجر
لا ريب أنَّ السياسة هي ماء الحياة اليومية في المشرق العربي والإسلامي، والحياة الدبلوماسية -حكماً- جزء لا يتجزأ من السياسة. من هنا جاء كتاب «السوق السوداء للدبلوماسية: عوالم القنوات الخلفية في السياسة الخارجية» (دار الرافدين) للباحث العراقي ياسر عبد الحسين إضافةً مهمة للمكتبة العربية، وخصوصاً أنه لا يضيء على جوانب معروفة من الدبلوماسية، بل يتجاوز ذلك ليحكي عن «سوقٍ سوداء دبلوماسية» بشكلٍ أو بآخر. وربما تأتي أهمية الكتاب في أنه يقارب موضوعاً لا يحكي عنه كثيرون بطريقةٍ أكاديمية، منهجية، وحكماً مجرّبة، كون صاحب البحث يعمل في السلك عينه أي الدبلوماسي منذ سنوات.
يشرح الكاتب في المقدمة ما يمكن اعتباره تلخيصاً فعلياً لفكرة الكتاب على طريقته الخاصة: «قد يكون تعبير السوق السوداء تعبيراً سيئاً في الاقتصاد، لكن قد لا يكون مشابهاً للمفهوم ذاته في السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، ففي المفهوم الاقتصادي، تعني التعاملات التجارية التي يتم فيها التحايل على القوانين الضريبية والتشريعات التجارية، ثمَّ التجاوز على القواعد المفروضة، ولكن أحياناً تنشأ هذه الأسواق بسب عدم قدرة الإنتاج الوطني والاستيراد على تغطية الطلب الداخلي، أي بالمفهوم الاقتصادي حصول حالة سوقية يزداد فيها الطلب إلى حد بعيد على العرض، وقد يتقارب هذا المعنى مع الحاجة الضرورية إلى قيام سوق دبلوماسية سوداء. غالباً ما تُمارس دبلوماسية القناة الخلفية خلف الكواليس بالتوازي مع دبلوماسية القنوات الأمامية، كما يجب التمييز بوضوح، بين دبلوماسية القنوات الخلفية والدبلوماسية السرية، أو سياسة خارجية سرية، كما قد يفهم البعض. إنَّ مفاوضات القنوات الخلفية سواء تلك التي مارسها رجال الدبلوماسية المهنية أو التي شغلها رجال الأعمال لإيجاد وساطات، لبدء الحوار كانت الأداة الأنجع لحل المشكلات. تأتي أهمية هذا الكتاب في بيان أهمية استخدام القنوات الخلفية في الوصول إلى الحلول الدبلوماسية المطلوبة بين مختلف الفواعل الدولية، وتقنين استخدام هذه القنوات الخلفية لكي تصبح أكثر فاعلية لتحقيق أهداف المصلحة الوطنية، وكذلك العمل على تجاوز حالة القطيعة والانسداد السياسي في العلاقات الثنائية على مستوى السياسة الخارجية، عبر إيجاد آليات تسمح بإيجاد حراك دبلوماسي معين، قد يصل إلى مرحلة توظيف العلاقات الشخصية والعامة في فتح القناة الخلفية».
يضيء الكتاب على جوانب متعددة من اللعبة الدبلوماسية الخارجية، ويظهر كيف أنَّ الدبلوماسية والعلاقات الدولية تحتاج أحياناً إلى اجتراع حلول غير منهجية وحتى غير منطقية لإيجاد وسائل تواصل حتى بين أولئك الذين لا تواصل بينهم. يشرح المؤلف بدايةً الأمور المنهجية وشبه المعتادة في العلاقات الدبلوماسية، التي يقوم بها دبلوماسيون معروفون. كأن يشرح في أحد الفصول عن الدبلوماسي الأميركي المعروف هنري كيسنجر، أو عن اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، أو عهد روزفلت وطرائق الدبلوماسية فيه آنذاك، وصولاً إلى دور العواصم العربية المعروفة مثل الدوحة وسواها؛ من دون أن ينسى المرور على دونالد ترامب، وأسلوبه الخاص في خلق «قنواته الخلفية للدبلوماسية».
وإذ أشرنا إلى تنوّع هذه الفصول فذلك أمرٌ حق. مثلاً يتحدث في أحد الفصول عن الدبلوماسية الروائية والكاتب الكولومبي المعروف غابرييل غارسيا ماركيز وقوته وحضوره الدبلوماسي؛ فيقول: «من الوهم الاعتقاد بأن النصوص الإبداعية والروائية تقع في عالم، بينما تقع السياسة في عالم آخر، أو أنه من الصعب أن يلتقي هذان العالمان في المجرى نفسه، فالسياسة تنتحر عندما تفقد كل خصائصها الإنسانية، وعندما تفقد الكلمة دورها في التأثير على الرأي العام... فقد استطاع غابرييل غارسيا ماركيز تغيير صورة بلده كولومبيا، في المحافل الدبلوماسية والإعلام الخارجي، من بلد المافيات والجرائم والمخدرات، ورفع اسمها في دول أميركا اللاتينية، وخصوصاً عندما يجسد ثقافة بلده، حتى وإن اختلف مع نظامه السياسي». ويروي عبد الحسين حكاية رواها له أحد الدبلوماسيين بأنّ «مجلس الأمن الدولي أصدر القرار 2379، وطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تشكيل فريق تحقيق لدعم جهود العراق في محاسبة تنظيم داعش، عبر جمع الأدلة على الجرائم التي ارتكبها، وحفظها وتخزينها. التقى الأمين العام بأحد أعضاء الفريق، وهو يحمل بيده رواية «حدائق الرئيس» للروائي العراقي الدكتور محسن الرملي المقيم في مدريد. وعندما سأله عن سبب حمله لتلك الرواية المترجمة إلى الإسبانية، وهو يزور العراق للمرة الأولى، أجابه: إنها كاشفة عن عادات المجتمع العراقي، وتفاصيله الدقيقة، رغم أن الرواية تتحدث عن الحرب العراقية ــ الإيرانية، وما بعدها». الأمر نفسه ينسحب حين يتحدث في فصل «نجم السينما في مسار القنوات الخلفية»، إذ يحكي عن الفنان عمر الشريف الذي «دخل تاريخ صنع السلام العربي ــ الإسرائيلي عبر القناة الخلفية بصمت ومن دون علم أحد بحسب وصفه. يروي أنّ السادات طلب منه أن يجس نبض الجانب الإسرائيلي تمهيداً لزيارته الشهيرة إلى القدس عام 1977»، وتكمل الرواية بطلب السادات من الممثل الهوليوودي «جس نبض» الرئيس الصهيوني آنذاك مناحيم بيغن والاتصال بالقيادة الإسرائيلية لمعرفة ما إذا كانت مستعدة وراغبة «باستقباله في القدس». ولأن الدبلوماسية ــ بحسب الكتاب ــ لديها طرائقها الخاصة في كل شيء، فما الذي يمنع أن يكون «المفاوض الدبلوماسي» أو «فاتح الأبواب» هو «تاجر أقمشة» مثلاً؟: «في أواخر نيسان (أبريل) 2016، أخبر رئيس الأركان آكار خلوصي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنّه قد تكون هناك قناة خلفية يمكن استخدامها لحلّ الأزمة عن طريق كافيت تشاغلار المستثمر في المنتوجات المرتبط لأعمال في جمهورية داغستان الفيدرالية الروسية، والذي كان يعرف الرئيس الداغستاني رمضان عبد اللطيفوف».
الفريق البرازيلي ساعد على إطالة حقبة الحكم العسكري خلال كأس العالم عام 1970
فتح تاجر المنسوجات هذا الأبواب أمام «الدبلوماسية المكوكية» بين أنقرة وموسكو والعلاقة الشخصية بين إردوغان وبوتين. يورد الكاتب في هذا الفصل عدداً من الأمثلة على أدوارٍ لعبها تجارٌ محليون في فتح أبواب اتصال. الأمر نفسه ينسحب على الرياضة، إذ يشير الكاتب إلى أنه أثناء زيارته نادي ريال مدريد لكرة القدم، وهو أحد أعرق أندية كرة القدم في العالم، لفتت نظره «وزارة خارجية مصغّرة.. حتى إنه يطلق على بعض لاعبيه المخضرمين صفة سفير، ليمثلوا 600 مليون من عشاق ومعجبي النادي حول العالم، وأكثر من 455 مشروعاً في 75 دولة، فضلاً عن جمهور النادي الافتراضي المكون من 428 مليون متابع على منصات التواصل الاجتماعي». هو يؤكد الفكرة ذاتها بأنّ كرة القدم اليوم، لم تعد مجرّد رياضة تمارس بالأرجل، إنها بوابة دبلوماسية وعلاقات، ويعطي أمثلة كثيرةً على ذلك: «أصبحت كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، وإنما تساعد على شن الحروب والثورات، ويتعلق بها المافيا والديكتاتوريون. عند لقاء فريق السلتك ورينجرز في غلاسكو، ازداد التوتر في إيرلندا، بل إنّ ما يزيد عن نصف السكان الهولنديين خرجوا للاحتفال بهزيمة ألمانيا عام 1988، ويُقال إنّ الفريق البرازيلي ساعد على إطالة حقبة الحكم العسكري في كأس العالم عام 1970 وإن الحرب النيجيرية البافارية توقفت لمدة يوم كامل لإتاحة الفرصة أمام النجم الراحل بيليه».
نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 24-8-2024