يحظى كتاب "ضياء في ظلمات المشرق" (2022، توزيع دار الفرات) للكاتبة اللبنانية ريجينا صنيفر بضجة في الوسط الثقافي اللبناني. يعود هذا الإهتمام بالكتاب المترجم عن نسخته الأصلية باللغة الفرنسية (2019) لثلاثة أسباب رئيسية: الشخصية، التي يدور حولها الكتاب وهي "الأمينة الأولى" للحزب السوري القومي الإجتماعي، جولييت المير سعاده (1909-1976)، زوجة مؤسس الحزب أنطون سعاده، والتي لم تأخذ حقّها الفعلي حتى صدور مذكراتها الخاصة عام 2003. هذه المذكرات بقيت مخبّأة في خزنة أحد البنوك في جنيف ما يقارب الثلاثة عقود قبل أن تنشر عام 2003 باللغة العربية.
السبب الثاني، يكمن في إسم صاحبة الكتاب التي تعيش في فرنسا منذ العام 1987؛ فريجينا صنيفر إسم يحمل ماضٍ أيديولوجي متطرّف رافقها في شبابها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وهو أمرٌ لا تحاول إخفاءه بل على العكس تعترف بالفم الملآن بانتمائها السابق لحزبَي القوات والكتائب اللبنانيين. إلا أنّ اعترافها ذاك هو بهدف توعية الشباب لعدم الإنصياع لأي حزب يتغذّى على “شيطنة” الآخر، أي آخر سواء كان اللبناني المسلم، أو الدرزي، أو العربي الفلسطيني أو السوري حسب ما قالته خلال مقابلة قديمة لها على قناة الـ "أو تي في". منذ أن كتبت صنيفر كتابها الأشهر "ألقيتُ السلاح: إمرأة في خضمّ الحرب الأهلية" (Éditions de l’Atelier, 2006) وصدر بعدها بعامين مترجماً عن دار الفارابي، الذي كان بمثابة مانيفيستو تحاول أن تصوّب من خلاله موقفها السياسي والإنساني -وإن بدا موقفها في ما يتعلق بحرب تموز متخبّطا- وهي على حد قولها شخص آخر أكثر نضجاً وإدراكاً لقضايا البلد والعالم العربي بما فيها القضية الفلسطينية.
أما السبب الأخير وراء الاهتمام بكتابها هو البيان الذي نشرته جريدة الأخبار (22 نيسان/أبريل 2022) من "ورثة جولييت المير" وبتوقيع صفية أنطون سعاده بالوكالة عن العائلة، يطلب من صنيفر حقّ الورثة في هذا الكتاب ويوضح أنّها لم تحصل على إذن خطي منهم لاستخدام مذكرات الأمينة الأولى كما هي وصياغتها في هذا الكتاب. فجاء رد صنيفر الذي نُشر في الجريدة بعدها بخمسة أيام: "تجنّباً للسجالات غير المبررة والعقيمة، واحتراماً لتاريخ ونضال وفكر أنطون وجولييت سعاده، أفضّل عدم الرد. من يطّلع على الوثائق والوقائع يدرك الحقيقة".
"ضياء" هو الإسم الذي كان يطلقه سعاده على زوجته جولييت، والإسم أيضاً يعني النور والإشراق، فوضعته صنيفر في تباين مع ظلمات الشرق لتوحي بأهمية دور جولييت كإمرأة مناضلة ومتنوّرة في زمن وفضاء جغرافي كانا يعانيان من تهميش النساء سياسياً وتحجيم قدراتهن الفكرية والثورية
بدءاً من العنوان الذي يحمل في طياته معنيَين؛ "ضياء" هو الإسم الذي كان يطلقه سعاده على زوجته جولييت، والإسم أيضاً يعني النور والإشراق، فوضعته صنيفر في تباين مع ظلمات الشرق لتوحي بأهمية دور جولييت كإمرأة مناضلة ومتنوّرة في زمن وفضاء جغرافي كانا يعانيان من تهميش النساء سياسياً وتحجيم قدراتهن الفكرية والثورية. ففي مقدمة الكتاب، يقول جورج قرم الخبير الإقتصادي ووزير المالية في حكومة الرئيس الحص: "عندنا في الشرق ميل إلى إهمال الدور السياسي للمرأة، وتناسي كون الحركة النسائية العربية سبقت نظيرتها الفرنسية بأكثر من ثلاثين سنة" (ص8)، ويُلحقها بأسماء شخصيات عربية مرموقة كانوا "طليعة الداعين إلى تحرر المرأة، متقدّمين بذلك عشرات السنين على حركة سيمون دو بوفوار" أمثال هدى الشعراوي، ثم الفلسطينية حنان عشراوي والمصرية نوال السعداوي والمغربية فاطمة المرنيسي، واللبنانية – الفلسطينية مي زيادة. إذاً يتحضّر القارئ لا للإطلاع على حياة جولييت المير كونها فقط زوجة مؤسس الحزب السوري القومي الإجتماعي التي تحمّلت مسؤولية العائلة في ظل غياب سعاده، بل للولوج إلى مسيرة "الأمينة الأولى" النضالية في الحزب ومعاناتها في السجون بعد اغتيال "الزعيم".
بطاقة تعريف
يمتد الكتاب على 365 صفحة (من القطع الكبير) ويحوي ستة عشر فصلاً بالإضافة إلى مقدمة لقرم وأخرى لصنيفر، وخاتمة يتبعها فهرس الأعلام وملحق الصور الذي يتضمن لحظات محفوظة من حياة جولييت المير بين العام 1930 و1967، فنراها وهي شابة مع صديقاتها، وهي تعمل ممرضة في حمص، وصوراً شخصية مع أنطون سعاده في الأرجنتين وفي لبنان، وأخرى مع طفلتيهما صفية وأليسار مع العائلة، وطبعاً صوراً من مناسبات ورحلات سياسية، كما أنّ هناك صورة لجولييت في السجن عام 1960 تتوسط والدتها حنّة وشقيقتها ديانا. في الفصل الأول “العبور الأول” تتناول صنيفر مشقة رحيل عائلة المير (حنّة وأطفالها الأربعة: جولييت، ديانا، جورج، وكاتالينا) في العام 1920 من طرابلس إلى بوينس آيريس، عبر البحر من مرفأ بيروت إلى مرسيليا ثم إلى الأرجنتين لملاقاة الوالد "عبدو". حينها، كانت الهجرة صعبة لغير الأثرياء الذين كانوا يستطيعون تحصيل جواز سفر عثماني من حكومة جبل لبنان، أما الفقراء فكانوا يعانون لتحصيل وثيقة مغادرة الأراضي السورية "نظراً إلى عدم الإعتراف الدولي بسوريا ولبنان" (ص39). ولدى وصول العائلة إلى العاصمة، سجّلتهم الحكومة الأرجنتينية على أنّهم أتراك Turcos، أي من رعايا الدولة العثمانية. بعد سنوات من التنقل بين المدارس الحكومية وأخرى بريطانية، طمحت جولييت في أن تصبح طبيبة، لكنّ وفاة والدها حال دون ذلك؛ تزوجت أختها كاتالينا وانتقلت إلى المدينة الجبلية ميندوزا، بينما عملت جولييت وديانا مع أخيهما في محل والدهم التجاري لتأمين مصروف العائلة. درست جولييت التمريض وعملت في المستشفى الإنكليزي لسنوات ثم التحقت بمستشفى الطبيب بوخ.
في الفصل الثاني "في صفوف الحزب" تحكي صنيفر كيف التقت جولييت بسعاده عام 1939 ثم انجذبت إلى حديثه عن حركته السياسية وعن طرحه القومي الذي يحارب "الحدود المصطنعة والهويات الطائفية التي تقسّم سوريا" (ص52) فانضمت بعدها بأيام إلى الحزب وأقسمت اليمين. أخذت جولييت تتعرف أكثر على مبادئ الحزب وسنوات تأسيسه وعن اعتقال سعاده ثلاث مرات بين عامي 1935 و1937، وكتابه "نشوء الأمم" الذي أنجزه في السجن، وصحيفة "النهضة"، ومخططات كتاب "نشوء الأمة السورية" الذي اختفى منذ حينها. كان نجم سعاده يسطع وأفكاره بشأن الهوية القومية ودحض فكرة الإنقسام إلى لبنانيين وسوريين تنتشر بسرعة، وكانت جولييت تقرأ أفكاره وتستوضح منه كثيراً من مصطلحات ومعانٍ حتى حثّها سعاده على إتقان اللغة العربية. توطدت علاقتهما كما يشير الفصل الثالث القصير "عشاق قرطبة" ويصارحها سعاده: "أريدك أن تكوني رفيقة حياتي"، ليتزوجا في مطلع العام 1941 وينجبا صفية في العام نفسه.
كثّف سعاده إجتماعاته ومقالاته ومحاضراته الأسبوعية خاصة في ما يتعلق بخطر الهجرات اليهودية إلى فلسطين، والمشروع الصهيوني في المنطقة والقضية الفلسطينية في ظل قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية
المؤامرة السورية – اللبنانية
في "العودة" أي الفصل السابع، تغطي صنيفر فترة عودة سعاده إلى سوريا عام 1947 بعد أن أدرك "أنّه من الصعب إيقاظ القومية السورية خارج أرضها" (ص110) رغم جهوده في الكتابة ومخاطبة السوريين من خلال المطبوعات التي أصدرها بين 1921 و1947 (الجريدة، المجلة، سوريا الجديدة، والزوبعة). حال وصول سعادة إلى الشوير ومكوثه فيها، شُنّت حملات تشويه على شخصه خاصة بعد أن نشط في اجتماعاته وجولاته ومحاضراته الثقافية حتى وجد نفسه تحت المراقبة، وصدرت مذكرة بتوقيفه بتهمة عدم اعتراف الحزب السوري القومي الإجتماعي باستقلال لبنان، التهمة التي فنّدها سعاده في بيان شرح فيه الوضع حينها. في تلك الفترة كان مستحيلاً طرح أي نقاش يحمل فكرة "سوريا الطبيعية" ويدعو إلى الهوية القومية، فاعتبر القادة اللبنانيون الجدد "من البرجوازية السنية والمارونية" عودة سعاده تهديداً لمصالحهم ولـِ "لبنان الميثاق الوطني". إنتقل بعدها إلى بيروت واستقرّ مع عائلته في شقة شبه خالية من الأثاث بالقرب من شارع جان دارك في الحمرا. باعت جولييت ذهبها واستخدمت المال الذي كان بحوزتهم لإعادة إطلاق طباعة الصحيفة. كثّف سعاده إجتماعاته ومقالاته ومحاضراته الأسبوعية خاصة في ما يتعلق بخطر الهجرات اليهودية إلى فلسطين، والمشروع الصهيوني في المنطقة والقضية الفلسطينية في ظل قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية. بعد سنتين، أحرق الكتائبيون مطبعة الحزب في الجميزة وألقت قوات الأمن القبض على "الرفاق" وأصدرت الحكومة قراراً بإلقاء القبض على سعاده وداهموا منزله بعنف أكثر من مرة. اختفت أخبار سعاده إلى أن علمت جولييت بوصوله إلى دمشق وذهبت للقائه. بعد بقائها معه لفترة في دمشق، تحضّر سعادة للقاء حسني الزعيم مساء السادس من تموز/يوليو 1949 لكنّه كان فخا، إذ نقلوه إلى لبنان وسلّموه هناك للمحاكمة. أُعدم سعادة بعدها بيومين رمياً بالرصاص ولم يُعرف أين دُفن جثمانه. أصبحت جولييت هي المستهدفة من بعده فوضعت تحت المراقبة في دير صيدنايا إلى حين انقلاب سامي الحناوي وإعدام حسني الزعيم ومحسن البرازي.
في خضم حزنها ومصابها الأليم في فقدان سعاده؛ زوجها ووالد أبنائها والزعيم المؤسس للحزب الذي أقسمت له الولاء، قررت جولييت البقاء في دمشق والنضال إلى جانب الرفاق وإظهار قدرتها على الدفاع عن الحزب ومبادئه، لكنّها في البداية اكتفت بحضور المؤتمرات والمشاركة في النشاطات الإجتماعية "للحفاظ على صورة الحزب من دون أن تتدخل في الشؤون السياسية" (ص219). لاحقاً وبعد تكثيف نشاطها، صدر قرار بتوقيفها وسيقت بالقوة إلى دائرة الشرطة ثم نُقلت إلى سجن المزة. وُضعت في زنزانة صغيرة ضيقة واستُجوبت لساعات على مدى عدة أيام. مرّت ثلاث سنوات وهي لا تزال في الحبس الإنفرادي وتدهورت صحتها كثيرا. نُقلت بعدها إلى سجن القلعة حيث بقيت هناك إلى أن ظهر ورم خبيث في عنقها استدعى استئصاله. عام 1963 وبعد تسع سنوات من السجن، صدر العفو الذي بثّته إذاعة لندن وخرجت على إثره جولييت في 26 كانون الأول/ديسمبر مجبرةً على الرحيل إلى أوروبا. قررت العودة في العام 1970 إلى ضهور شوير، حيث كانت تسكن مع سعاده. توفيت جولييت عام 1976 في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية.
يُلحظ لصنيفر ضبطها للخط الزمني منذ الحرب العالمية الأولى وتسلسل الأحداث التاريخية في العالم: مراسلات الحسين مكماهون، إتفاقية سايكس بيكو، وعد بلفور، التنافس البريطاني الفرنسي لفرض الإنتداب على أراضي السلطنة العثمانية بعد استسلامها في الحرب، مؤتمر السلام ومعاهدة فيرساي، ثم هجرات اليهود إلى فلسطين واحتلالها إثر ضعف وتقصير الجيوش العربية، والإنقلابات في سوريا، وصعود الناصرية، سقوط النظام الملكي في العراق، الوحدة العربية بين مصر وسوريا وغيرها من الأحداث السياسية التي مدّت المذكرات بالسياق التاريخي السياسي.
في الختام، هو كتابٌ تأريخي لسيدةٍ لم تشارك في التجربة فحسب، بل خاضتها وكانت صنواً رئيسياً فيها. سيدة تستحق أن يؤرّخ أكثر من كتاب مراحل حياتها ونضالها في سبيل هذي البلاد وشعبها.
نُشر في موقع صمود بِتاريخ 26 تموز 2022
صمود - ضياء سعاده: الأمينة الأولى للحزب السوري القومي الإجتماعي (somoud.com.ps)