العاشر من نيسان 1836، في تمام الثالثة فجراً، اكتشفت روزينا تاونسند جُثَّة جيويت دوركاس دوين، وهي فتاة تعمل لديها بالدعارة في منزلٍ في نيويورك. بحسب تقرير الطب الشرعي، تمَّ ضرب الضحيِّة بجسمٍ حاد (بلطة) على رأسها، وأضرم القاتل النار في السرير ثُمَّ لاذ بِالفِرار، فاحترقت الجُثَّة من جِهةٍ واحدة.
حَظيِت الجريمة بتَغطِيَةٍ صحافية غير مسبوقة، وانقسم تعاطف المراسلين والصحف بين الضحية والمُتَّهم ريتشارد روبنسون، وهو شاب يبلغ من العمر 19 عامًا، كان من زبائن الضحية الدائمين.
ساهمت هذه القضية، مع غيرها من الجرائم العنيفة التي وقعت في القرن التاسع عشر، في ظهور صحافة التابلويد، أو صحافة الفضائح، التي تلاحق أخبار المشاهير والنجوم والجرائم والشائعات: اغتيال إبراهم لنكولن، محاكمة ليزي بوردن، قتل ويليام بوول أو بيل بوول(Bill the butcher) زعيم عصابة Washington Street Gang.
تدريجيًا، وعلى مراحِل، بدأ بعض الكتاب بنقل التجربة إلى خارج صحافة الفضائح، ليتبلور الشكل الثاني للأدب البوليسي من خلال القصص القصيرة التي نشرت في الجرائد والمجلات خارج صفحات الحوادث، ومن خلال الروايات والمجموعات القصصية للبالغين والأطفال.
كلّفت بعض الجرائد محققين متخصصين ونشرت روايات عن الجرائم على حلقات عدة. ووظَّف الكتَّاب ورؤساء التحرير علاقاتهم وصلاتهم بأجهزة الدولة وسياسيين للحصول على محاضر التحقيق، وبدأ إدخال الأساليب الفنية في صياغة الأحداث، ما ساهم في نقل الأدب البوليسي من محاضر التحقيق والنظرة القضائية واللغة التقنية التي تعرض الوقائع مرفقًة بالأدلة ضمن نصوص وقوالب تحتكرها السلطة القضائية، إلى قالبٍ مشوِّقٍ يجذب القارئ المتعطش لمتابعة تلك الأخبار.
صُنَّف إدغار آلان بو (1809-1849) كالأب الروحي للقصةِ البوليسية الحديثة، وهو أول كاتب وناقد أدبي أميركي معروف حاول كسب لقمة العيش من الكتابة. المعالم الأساسية التي وضعها بو في قصصه البوليسية الثلاث طبعت الأدب البوليسي الخيالي إلى يومنا هذا، وتحول الكثير من هذه الأعمال إلى أفلامٍ ومسلسلات بمواسم عديدة.
وكانت الرواية البوليسية قد انتقلت من انكلترا وفرنسا الى الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن التاسع عشر، ولم تظهر في اسبانيا الا سنة 1973 بعد رحيل فرانكو. وكتَبَ كُلّ بلد روايته بحسب ثقافته وتطور نظامه السياسي والاقتصادي.
اختلاف مفهوم رجل الدولة والقانون بين الثقافتين الغربية والعربية، ساهم إلى حدٍ بعيد في اختلاف نظرة النقَّاد والجمهور على حدٍ سواء، وعليه سيختلف الحكم على أي نوعٍ أدبي بين بلدٍ وآخر، إن لم يتم تقنينه وفقًا لثقافة المجتمع ومفهوم الدولة.
ربطًا بمفهوم التقنين، وكيفية فهم كُلّ حضارة لقِصَّة الجريمة وتعبيرها عنها نستطيع العودة إلى الأصل:
هناك من أشار إلى أنَّ الرواية البوليسية في الغرب تشكل استمرارية لتراثٍ شرقي، سواء كان فارسيًا (أسطورة الأمراء الثلاثة لسرنديب) أو عربيًا: (قصص ألف ليلة وليلة - «حكاية التفاحات الثلاث») أو حتَّى فرعونيًا (قِصَّةِ قتل سيت لأوزيريس ووضعه في صندوق وإلقائه في النيل).
لم نكن معزولين في عالمنا العربي عن الأدب البوليسي الذي تمتع بانتشارٍ كبير رغم قلَّةِ إنتاجه، ورغم وصول الأمر ببعض النقاد إلى حدِّ تحقيره ووصفه بأدب التسلية المُوَجَّه للمراهقين، مما دفع بكثير من الكتَّاب إلى العزوف عنه.
يُضاف إلى ذلك مسألة التصنيف بحدِّ ذاتها: هل هي وفق رأي الناقد؟ أم وفق رأي أصحاب الاختصاص (المحققين الجنائيين)؟ أم وفق المضمون الذي يعتمد على عناصر الجريمة والتحقيق، ما يعني خروج الكثير من الروايات من اطار الأدب البوليسي، مثل رواية غسان كنفاني «الشيء الآخر.. من قتل ليلى الحايك»، إذ أنها أشبه بمحاكمة طويلة بين المتهم والقاضي، وفي جزءٍ كبيرٍ منها مونولوغ داخلي للبطل. لاستكمال الفكرة. لنأخذ مفردة «بوليس»، الرابط المباشر في ذهن المُتَلَقي لها هو القمع والبطش ورُبَّما الفساد، وغياب كُلِّي لمبدأ حفظ النظام وتطبيق القانون.
”يضعنا إدغار آلان بو أمام نموذج أولي لشخصية المحقق في الأدب البوليسي الخيالي ما زال مستمِّرًا حتى اليوم“
بين الواقع والخيال
لا بُدَّ من الإشارة إلى نقطَةٍ مهمة في الأدب البوليسي الخيالي، التحقيق الجنائي الواقعي يستند على أسسٍ علمية وقانونية، ويعتمد على الأدلة المجموعة من مسرح الجريمة تبعًا لنوع الجريمة، والتي يتم تغليفها وتخزينها وفقًا للأصول، وتُصنَّف تبعًا لقيمتها الدلالية. أما في ما يتعلق بطريقة عمل المحققين في الأدب البوليسي الخيالي من أمثال دوبان وشرلوك هولمز، فهم يَتَّكِلون على أدلَّةِ يُقال لها أدلة ظرفية، لا يمكن الاعتماد عليها بشكلٍ مستقل في القضايا الجنائية، وتُعتَبَر أدلة مساعدة للدلائل الأساسية. مثال على ذلك وجود بصمة تعود لشخص في مكانٍ عام حصلت فيه جريمة، إذ أن أصل وجود البصمة في هذا المكان دليل ظرفي لا يُمكن الإتكال عليه للجزم بهوية القاتل، لعدم القدرة على الربط بين البصمة والجريمة لأنه مكانٍ عام.
جريمتا شارع مورغ - إدغار آلان بو (1841)
قصة قصيرة نُشِرت عام 1841 في مجلة غراهام، ومن أولى القصص التي ازدهرت وصُنِّفت كأدبٍ بوليسي، قدَّم فيها بو شخصية المحقق سير أوغست دوبان الذي يحاول حلّ لغز جريمة قتل مزدوجة لسيدةٍ عجوز وابنتها في شارع مورغ، وهو شارع خيالي في باريس (يُقال بأن قصتها حقيقية وتدعى سيسيليا روجرز). وقد تكرر ظهور دوبان في قصتين بعدها: «غموض ماري روجيت» (1842)، و«الرسالة المسروقة» (1844).
لم يكن دوبان رجل أمنٍ محترفاً، بل سليل أسرةٍ غنية تحوَّلَ إلى الفقر، اعتزل الناس والمجتمع معتمِدًا على المتبقي من إرث عائلته، وبعد اتباعه نظامًا صارمًا للمصاريف، انصرف لقراءة الكتب وتمضية الوقت مع صديقه المجهول.
اعتمد في حلِّ قضاياه الثلاث على التحليل والاستنتاج، وهذا ما يظهر جلّيًا منذ بداية القصِّة، وفي الاقتباس الوارد في المقدمة، يقودنا بأسلوبٍ مشوق على لسان راوٍ مجهول، ليشرح الفوارق بين التحليل والحسابات الرياضية، والتمييز بين لعبة الشطرنج المعقدة بتنوع قطعها وخططها ولعبة الداما البسيطة، عدد الاحتمالات، تضاعف فرص السهو والخطأ، ليعود مرَّةً أخرى ويرفع مستوى التحدي أمام القارئ، بإبرازه أهمية التركيز، فينقله للعبة الورق الروسية «الهويست»، والتي تطورت لاحقاً في بريطانيا تحت إسم «بريدج» بعد وضع قوانين لها وتحويلها الى لعبة تعتمد على الذكاء بشكلٍ كُلّي، لتصبح صراعًا حقيقيًا بين العقول.
يضعنا بو أمام نموذج أولي لشخصية المحقق في الأدب البوليسي الخيالي، ما زال مستمِّرًا حتى اليوم، فيُبرز الـ Skeleton Key العقلي لبطلٍ يمتلك صفات أصبحت شائعة ونمطية لدى محققين أمثال: شارلوك هولمز (للكاتب آرثر كونان دويل) وهركول بوارو (آغاثا كريستي)، حتى أنها طبعت أبطال هذا الأدب ومعالمه بصفاتٍ ثابتة:
محقق غريب الأطوار إلا أنه بارع، يدَخن الغليون، يستهزئ بعناصر الشرطة ويظهرهم كأغبياء، الراوي بصيغة المتكلم على لسان الصديق الشخصي للمحقق (الدكتور واطسن صديق شارلوك هولمز، الراوي غير المسمى صديق دوبان)، سرد قصة الجريمة حينما يعلن المحقق الحل، وإبراز الأسلوب التحليلي في التحقيق وليس بالتجربة والخطأ للوصول إلى المجرم.
«يجب علينا عدم الحكم على وسيلة ارتكاب الجريمة بهذا الفحص السطحيِّ. وشرطة باريس، التي يُشَاد بذكائها، لا تتمتَّع بما هو أكثر من هذا؛ فهم لا يمتلكون أيَّ منهجية في إجراءاتهم بخلاف المنهج اللحظي».
يتشارك الصديقان السكن في قصرِ دوبان القديم ولا يخرجان إلاَّ ليلًا، بدون أيِّ ذِكرٍ مسبق للموضوع، وخلال إحدى نزهاتهما الليلية، يستعرض المحقق أمام صديقه مهاراته، من خلال تحليله لرأي الراوي بممثلٍ تراجيدي فاشل، رغم أنه لم ينطق بأيِّ شيء قرأ دوبان أفكاره، وأخبره بأنه يتناسب أكثر مع مسرح المنوعات، ثمَّ قام بسلسلةٍ طويلة من الاستدلال ليشرح له التسلسل المنطقي لأفكاره، واستعمل خلال التحليل: لغة الجسد، علم الفلك، الهندسة وتقطيع الحجارة، مقال نقدي للممثل في صحيفةٍ محلية ظهرت فيه جملة لاتينية.
يتتابع السرد ويقوم بعدها دوبان بالتعاون مع الراوي وباتباع نفس أسلوب التحليل بحلِّ لغز شارع مورغ، ليتبين لاحقًا بأن القضية تندرج تحت صنف الغرف المغلقة، حيث لا إمكانية للخروج والدخول من وإلى مسرح الجريمة، وأن القاتل هو حيوان الأورانجوتان، أو «إنسان الغاب»، الذي هرب من أحد البحارة آخذَا معه موسًا للحلاقة ليقلِّدُ به صاحبه، يتسلق الحائط ويدَخَل من نافذة المنزل، فيقوم بذبح الأم بعد أن خاف من صراخها، ويخنق الابنة ويقوم بتعليقها داخل المدخنة.
أنواع الروايات البوليسية
■ الجريمة الدافئة:
ذات شعبية كبيرة، لا تحتوي مشاهد عنف ودم أو جنس، غالبًا تدور أحداثها في الطبقة الوسطى من المجتمع، وعند حلّ لغز الجريمة، يعود الجميع لممارسة حياته الطبيعية، مطمئنين بأن القاتل قد تمَّ إلقاء القبض عليه.
■ الغرفة المغلقة:
سُميت كذلك لأن الجريمة تحصل ضمن ظروف شبه مستحيلة، مما يُصِّعب من عملية حلّ اللغز، والقبض على القاتل.
■ Hard boild:
وهي عكس الجريمة الدافئة، تحوي مشاهد عنف وجنس، وترتبط غالبًا بقتلة متسلسلين، أو مرضى نفسيين.
■ المحقق الخاص:
التي تُركِّز على المحقق - وليس الشرطة - الذي يبجمع القرائن والأدلة للقبض على المجرم وتسليمه للعدالة.
■ قاعة المحكمة:
التي تستعرض سير المحاكمة لمجرمٍ وراء القضبان، وهكذا نوع من الروايات يستخدم تقنية الفلاش باك في الكتابة، لاستعراض الأحداث السابقة للجريمة.
■ الدراما القانونية:
شبيهة بقاعة المحكمة، إلا أن الأحداث لا تجري كُلَّها داخل قاعة المحكمة، وعمليات التحقيق تقع على عاتق الفريق القانوني
نُشر في الملحق الأسبوعي لصحيفة الأخبار اللبنانية: "القوس" بِتاريخ 9 نيسان 2022.
رواية من نوع آخر: القصص البوليسية في قبضة القرّاء | القوس (alqaous.com)