انتحار معالج نتنياهو مزحة مجازية: إلا الصهيونية المسعورة أعيت مَن يداويها!
«جاء بيبي عند الثالثة وادّعى أنّ منزلي هو منزله. حبَسني في القبو بينما كان يستمتع ببذخ مع أصدقائه في الطابق العلوي. عندما حاولتُ الهرب، وصفَني بالإرهابي ووضعني في الأغلال». هذا نصّ من مقالة قديمة كتبها مايكل ك. سميث بهدف نقد سياسات الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. إلا أنّ النصّ سرعان ما عاد إلى الواجهة مع العدوان الحالي على غزة، وانتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل مع اختلاف في السردية. مَن نبش هذه القصة ولماذا؟ هنا محاولة لتتبّع المصدر وفهم الخلفيات والدوافع وراء الإضاءة على هذا النصّ الذي يعود إلى عام 2010
قبل مدّة، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنصّات الإخبارية خبر انتحار موشيه ياتوم، الطبيب النفسي الخاص برئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو باعتبار أنه أنهى حياته أخيراً بسبب العدوان على غزة وارتكاب قوات الاحتلال ــ بأوامر من رئيس وزرائه ــــ جرائم حرب ومجازر وحشية أودت بحياة ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني نصفهم من الأطفال الصغار. ورغم أنّ الخبر ليس صحيحاً، لكن ذلك لا يستبعد وحشية وإجرام ولا عقلانية نتنياهو في التعامل مع الفلسطينيين، وفي إدارته لحكومة الاحتلال.في البحث عن صحة الخبر ودقته، كانت هناك مرحلتان من التتبّع للوصول إلى أصل الحدث والنص المنشور أولاً عن انتحار الطبيب النفسي موشيه ياتوم الذي عالج بنيامين نتنياهو لمدة تسع سنوات كاملة، قبل أن يُقدم على الانتحار بكامل إرادته. المجموعة الأولى من المصادر ـــ العربية والغربية ــــ ادّعت أنّها تقصّت الخبر وجذوره حتى وصلت أخيراً إلى الحقيقة التي تُفيد بأنّ ياتوم كان فعلاً طبيب رئيس وزراء حكومة الاحتلال وبقي على تواصل معه عبر جلسات الاستماع والعلاج لسنوات، لكنّها تظهر للقارئ أنّ الخبر ليس دقيقاً في ما يتعلّق بتاريخ موت ياتوم الذي أنهى حياته في عام 2010. تشاركت تلك المصادر في نقل المعلومات ذاتها عن المعالج النفسي الذي أمضى حياته في خدمة مهنته، وحقّق نجاحات عديدة في مساعدة مرضاه النفسيين لتخطي أزماتهم وفهم دوافعهم الداخلية اللاواعية. هذه المواقع الإخبارية لم تنسَ أن تنقل نص رثاء المجتمع الطبي النفسي في الكيان الصهيوني الذي نعى ياتوم مذكّراً بمسيرته المهنية وخدمته المخلصة لرئيس الوزراء الصهيوني لسنوات طويلة، قبل أن يدرك أنّ محاولاته المستمرة لم تنجح في مساعدة نتنياهو للتحسن نفسياً وعقلياً، وأنّه فشل في فهم عقل نتنياهو المليء بالتناقض الذاتي واصفاً إياه بـ«شلال الأكاذيب».
أما المرحلة الثانية من البحث الأعمق، فقد جاءت في محاولة تقصّي الخبر الأول، والوصول إلى المصدر الذي نَشر للمرة الأولى عبر الإنترنت اسم الطبيب وقصة الانتحار ومضمون الرسالة التي تركها ياتوم، وبالفعل كانت هناك مقالة باللغة الإنكليزية للكاتب مايكل ك. سميث بعنوان «انتحار الطبيب النفسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو»، تعود إلى تاريخ 23 حزيران (يونيو) من عام 2010. وفي هذه المقالة، نشر سميث تفاصيل من مذكرة وفاة موشيه ياتوم كما كتب بخط يده: «نتنياهو امتصّ الحياة منّي»، و«لا أستطيع أن أتحمّل الأمر بعد الآن.. السرقة فداء، والفصل العنصري حرية، ونشطاء السلام إرهابيون، والقتل هو دفاع عن النفس، والقرصنة شرعية، والفلسطينيون أصلهم أردنيون، والاستيطان تحرير، ولا نهاية لتناقضاته»، مستخلصاً أنّ مؤسّس التحليل النفسي الفيلسوف سيغموند فرويد «وعد بأن العقلانية ستسيطر على المشاعر الغريزية، لكنه لم يلتقِ ببيبي نتنياهو قط». وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النص حقيقي، فهو موجود فعلاً للكاتب سميث، لكنّه منشور تحت تصنيف «هجاء سياسي» (political satire)، لصاحب كتاب «جنون الملك جورج: الجنون العبقري لأكثر رئيس أسيء تقديره» (2003) الذي يتحدث عن مدة حكم الرئيس الأميركي جورج دابليو بوش وقراراته السياسية. ما يعني أنّ المقال عن انتحار موشيه ياتوم هو في الأصل كما نقلت وكالة «أسوشييتد برس» الأميركية، «قصة» متخيّلة اخترعها سميث «كان الغرض منها لفت الانتباه إلى الجنون اليائس للسياسة الإسرائيلية بطريقة مسلّية». إذاً أراد الكاتب أن يُحاكي جنون الاحتلال الصهيوني تجاه ما يرتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين. في النص الأصلي، يقول سميث عن لسان الطبيب المنتحر: «جاء بيبي عند الساعة الثالثة بعد الظهر لحضور جلسته، وفي الساعة الرابعة رفض المغادرة وادّعى أنّ منزلي هو منزله بالفعل. ثم حبَسني في القبو طوال الليل بينما كان يستمتع ببذخ مع أصدقائه في الطابق العلوي. وعندما حاولتُ الهرب، وصفَني بالإرهابي ووضعني في الأغلال. لقد توسّلت إليه أن يرحمني ويتركني، لكنه قال إنه من الصعب أن يمنحها (الرحمة) لشخصٍ لم يكن موجوداً من الأساس».
وفي محاولةٍ للعثور على الطبيب الحقيقي موشيه ياتوم، لم تكن هناك أي معلومات عنه لا باللغة الإنكليزية ولا بالعربية، باستثناء ما جاء عن تاريخ انتحاره عبر نص سميث. وبالتالي يمكن القول إنّ المعالج النفسي شخصية وهمية اخترعها الكاتب لتكون جزءاً من روايته وتخدم الفكرة التي يحاول إيصالها للقارئ الغربي. عبر مؤلفات سميث التي تتشارك في نقد الحكومة الأميركية وقراراتها السياسية الداخلية والخارجية، ونقد الاحتلال الإسرائيلي بوصف رئيس حكومة العدو بالـ«مجنون» والـ«مليء بالتناقضات الذاتية» و«شلال من الأكاذيب»، يمكن القول إنّه يحاول توعية القارئ المؤيد للصهيونية في الغرب بأنّ «الوجود الإسرائيلي» على أرض فلسطين ما هو إلا احتلال واستيطان غير شرعي جاء نتيجة فرض القوة العسكرية.
Netanyahu didn't have a psychiatrist who killed himself. That is an obvious satire article, genius. No wonder you believe in insane conspiracies. pic.twitter.com/MsiayP74E3
— Ridvan Aydemir | Apostate Prophet (@ApostateProphet) November 9, 2023
قد يسأل القارئ عن سبب استخدام سميث لشخصية الطبيب النفسي في قصته، وسبب عدم اختياره أي شخصية أخرى ذات مهنة مختلفة وعلاقة مغايرة للطبيب النفسي ومريضه. يمكن تحليل هذا الاختيار بربطه بإدراك الكاتب لهيمنة السردية الصهيونية على المجتمعات الغربية، عبر وسائل الإعلام الكلاسيكية التي تنقل الأخبار عن الصراع الفلسطيني الصهيوني بلسان الاحتلال، حتى يظهر للعالم على أنّه الضحية، ويكسب التأييد لمشروعه الاستعماري. ربما أراد الكاتب أن يظهر لنا أن رئيس الحكومة هو بالفعل «ضحية»، لكنه ليس ضحية الآخرين، إنّما ضحية نفسه وعقله غير المتوازن وتاريخه الشخصي المتطرّف، فهو يعاني من اضطرابات وتناقضات كثيرة تجعله يقتنع بالأكاذيب التي يختلقها، ويبرّر لذاته الجرائم التي يرتكبها بحق الآخرين. إنّ دلالة تقصّد سميث لتقديم شخصية المعالج النفسي والقول إنّه بقي يقدّم جلسات علاجية لنتنياهو لمدة تسعة أعوام، تظهر أنّ الطب النفسي هو في الأصل وفق فرويد يعمل لفهم العقل الباطني ومكبوتات النفس والصراع بين الوعي واللاوعي، عبر جلسات الحوار بين الطبيب والمريض والتداعي الحرّ الذي من شأنه أن يدفع بالذكريات والرغبات المكبوتة للخروج عبر اللسان. كما أنّ من السمات المهنية للطبيب النفسي أن يكون «صحيحاً» قادراً على سماع اضطرابات الآخرين النفسية والعقلية والتوصل مع المريض إلى إيضاحات عن مشاعره وأفكاره، تسهم في تقدّم حالة المريض النفسية وعلاجها مع الوقت. لكن الأهم في هذه القصة المتخيّلة أنّ الطبيب النفسي الذي يمثّل الوعي والإدراك والمعرفة، بقي يحاول لسنوات مع نتنياهو إلى أن فشل في علاج جنونه وأقدم على قتل نفسه، ما يوحي بأنّه لا يمكن لأي «عاقل» أن يرى أفعال الاحتلال وممارساته العنصرية على أنّها «طبيعية» أو «مبرّرة» يمكن «الدفاع عنها». ودلالة سنوات العلاج التسع تُظهر أنّ الخداع الصهيوني للجمهور في الغرب قد يستمر لمدّة لكنه في النهاية سيظهر على حقيقته، فلا كذبة تستطيع النجاة إلى الأبد.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ «جنون» نتنياهو ليس مبرّراً لما يقوم به الاحتلال الصهيوني من انتهاكات للقوانين الدولية وارتكاب جرائم حرب في العدوان على غزة أبرزها الاستهداف المباشر والمتعمّد للمستشفيات كافة ولمدارس الإيواء التي يحتمي فيها الأطفال والنساء والمدنيون. يجب التنبّه هنا وطرح سؤال: مَن المستفيد من إعادة نشر قصة انتحار طبيب نتنياهو وشخصيته المجنونة في هذا الوقت تحديداً؟ لوضوح احتمال أن يكون العدو الصهيوني وراء هذا التعويم بهدف التخلّي عن المسؤولية والتهرب منها أمام المجتمع «الإسرائيلي» والرأي العام الدولي، والأهم من ذلك كله أمام المحاكم الدولية التي قد تحاول -تحت الضغط- الحفاظ على ماء وجهها في المرحلة اللاحقة للعدوان على غزة، فينجو الاحتلال الصهيوني من العقوبات الدولية باعتباره كان تحت سلطة رئيس الوزراء، فبذلك يتحمّل نتنياهو «المجنون» وحكومته مسؤولية الجرائم كلها، ويخرج كيان الاحتلال بريئاً من كل ما حدث.
منهم من يقول بالفم الملآن: «خدعونا وغسلوا دماغنا لسنوات، الآن نرى الحقيقة، نرى ما يحدث في غزة»
لكن ماذا عن «عقل» نتنياهو الحقيقي، بعيداً من القصة المتخيّلة (المبنية على الشخصية الواقعية)؟ منذ عملية «طوفان الأقصى» التي خططت لها ونفّذتها «كتائب القسام» الجناح العسكري لـ«حركة حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تعرّض رئيس حكومة العدو لموجة من الهجوم والانتقادات من المجتمع «الإسرائيلي»، ليس فقط لفشله في تحديد الهدف من الحرب على غزة أو تحقيق أي إنجاز عسكري، بل لـ «تهرّبه من المسؤولية» و«تخبّطه في مواقفه» و«عدم اتزانه في تصريحات يجبر بعدها على الاعتذار تحت الضغط»، مثلما رأيناه يحذف تغريدة نشرها على موقع إكس يحمّل فيها أجهزة استخبارات العدو كامل المسؤولية لفشلها في التصدي لعملية «الطوفان»، لكنه عاد وحذفها معتذراً. في دراسة بحثية أجراها الباحث وأستاذ علم النفس في «جامعة تل أبيب» شاؤول كيمخي، عبر قراءة شخصية نتنياهو عبر كتبه وخطاباته ومقابلاته الصحافية وأفكاره وتصرفاته وسلوكه، توصّل إلى أنّه ذو شخصية egocentric تلتف حول ذاتها وترى في ما تفعله صواباً مطلقاً. يسعى نتنياهو إلى تحقيق النجاح الشخصي على حساب الأيديولوجيا ولا يتردّد في استغلال الآخرين من أجل تحقيق مبتغاه، فهو يسعى إلى السيطرة تحثّه رغبة عالية للبقاء في السلطة. يشرح الباحث أنّ نتنياهو يعاني التوتر المفاجئ الذي يجعله يشعر بعدم الأمان والخوف من الفضيحة ووسم الآخرين له بالفشل، وإنّ توتره وخوفه يجعلانه مضطرباً ومتسرّعاً في التعامل مع الأحداث غير المتوقعة، حتى أنّه قد يقدّم وعوداً كبيرة غير واقعية أو يوقّع اتفاقيات من دون تأنٍّ في دراستها. الخداع والتضليل هما لعبة نتنياهو، فهو يجيد الخطابة والتحدث مع الصحافة باستخدام اللغة التي تتناسب مع مصالحه والسردية التي يريد تصديرها، فلا يتوانى عن فبركة الأخبار واختراع أحداث غير حقيقية تسهم بنسبة معينة في دعم موقفه، تماماً مثل الصورة التي نشرها وهو يزعم أنّها لـ «طفل إسرائيلي أحرقته نيران حماس»، لكن الإعلامي الأميركي المعادي للصهيونية جاكسون هينكل نشر عبر صفحته على موقع إكس أن الصورة مزيّفة وقد تمّت فبركتها باستخدام الذكاء الاصطناعي وهي تعود في الأصل إلى «كلبٍ في عيادة الطب البيطري».
وبالعودة إلى انتشار نص مايكل ك. سميث في معركة «طوفان الأقصى» والعدوان الصهيوني على غزة، فإنّ السبب وراء ذلك يكمن في حقيقة أنّ ما هو مكتوب في القصة يتطابق مع ما يحدث اليوم في فلسطين. صحيح أنّ ثلاثة عشر عاماً تفصل بين كتابة سميث لنصّه المتخيّل وبين حرب أكتوبر 2023 على قطاع غزة، لكن العدو الصهيوني ما زال عنصرياً، مجرماً، متوحشاً، مجنوناً، يعاني من «انفصام» وازدواجية معايير، كما أنّ الخداع الذي طال عقول الناس لعقود نراه اليوم يسقط ويخرج مئات آلاف الأميركيين والأوروبيين يتظاهرون في واشنطن ولندن وبرلين وباريس لوقف الجرائم الحربية على غزة، ومنهم من يقول بالفم الملآن: «خدعونا وغسلوا دماغنا لسنوات، الآن نرى الحقيقة، نرى ما يحدث في غزة»
نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 17-11-2023