تغيّرت الكتابةُ كثيراً عبر الأعوام التي خلت. اللغة حال الناس، وهي مثلهم تتغيّر وتنمو وتزدهر، كذلك هي تموت وتنقرض. مثالٌ بسيط لم يعد هناك متسعٌ للعصر الكلاسيكي من الكتابة والكتّاب، فاستعمال الجناس كما الطباق كمحسناتٍ للغة باتت ضرباً من ضروب الماضي. إن استخدامها اليوم دليلٌ على عيشٍ في الماضي: نوعٌ من «سلفيةٌ» أدبية، تريد أن تعيد نوعاً من الأدب لم يعد يناسب العصر الحديث، وإلباسه رداءاً حديثاً؛ لكن العطّار لا يمكنه -أبداً- إصلاح ما أفسده الدهر.
لم يعد مناسباً اليوم أن نكتب كما لو أننا لا نزال في سبعينيات القرن الماضي. كان لذلك العصر نجومه، كتّابه، ومفكروه. ذلك أمرٌ حسن، لكن اليوم ما كان ينفع آنذاك، لم يعد ينفع البتة. ببساطة لم يعد ينفع أن أقول بأنَّ «الهواء صفعني وأنا أخرج»، فالهواءُ لايصفعُ أحداً، الهواء «هواء»، عنصرٌ من قوى الطبيعة، التي لا تعرف أنك موجود، لا تهتم بأنّك هناك، كما ستستمر بعدك -أو حتى قبلك- دون تأثير حقيقيٍ عليها. إن لغة الإسباني الكبير غارثيا لوركا واستعاراته لم تعد تنفع أو تفيد اليوم، خصوصاً إذا ما تحدّثنا عن لغة «لا شعرية»، لغةٍ مباشرةٍ لأدبٍ يريد أن يحاكي الناس: يتفاهم معهم. لقد أصبحت التجارب منذ نظرية «موت المؤلف» للفيلسوف الفرنسي رولان بارت؛ تقترب من فكرة العمل المنجز بكلية، أي بمعنى أن الكاتب يكتب نصّه بكل ما أوتي من قوة ليتركه أمام قارئه كما هو دون تدخّل.
هنا نحتاج أن نكتب لغة الناس، حكاياهم، بلغتهم أو على الأقل بلغةٍ تواسيهم، تتقارب معهم، تفهمهم ويفهمونها. سيسأل سائلٌ: استخدمت المحسّنات اللغوية -في السابق- لتعطي المشهد زخماً أكثر؛ فلماذا لا نعود إليها اليوم. تكون الإجابة: بعد مدرسة «الواقعية المدهشة» التي سادت أميركا الجنوبية واليابان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم يعد هذا مرغوباً أو مقبولاً العمل به بعد الآن: فواقعية «قاسيةٌ» وفجّة مثل تلك التي نراها في «عطش للحب» ليوكيو مشيما، أو «الجميلات النائمات» لياسوناري كاوباتا أو «في ساعة نحس» لغابرييل غارسيا ماركيز؛ لا يصح معها استخدام لغةٍ لا تناسب تلك الواقعية: كن واقعياً، قلباً وقالباً. هناك آلاف الطرق لزيادة الزخم في المشهد دون ادخال خيالٍ لا حاجة فيه، كما لا منطقية. الخيال في عصر «الواقع المرئي» أو الواقع المعاش -وهذا عصرنا الحالي- يجب أن يكون منطقياً واقعياً، يغوص في «الواقع كي يخرج أفضل ما فيه». استبدل -ببساطة وسهولة- «صفعني الهواء» كمثال، بوصفٍ أكثر «مباشرةً لا لبس فيه، كما لا إضافة للوقت: «بدا الهواء قاسياً، شديداً، تذكرت الرياح القبلية التي يحكون عنها في المغرب العربي» مزج الواقع مع الصورة، مع المكان والجغرافيا، بصورة توحي بقوة الهواء وقسوته، دون «الصفع» و«الركل» اللذين لا يهتم الهواء بهما أبداً.
هذا عصرٌ مختلف، لذلك لم يعد بالإمكان أن تغيب الأماكن الحقيقية، والأسماء الحقيقية، وأديان الأشخاص واتجاهاتهم الفكرية. فأسماء الناس كشوقي وفكري ووائل، لم تعد تنفع في عصرٍ يتميز الإنسان بهويته الفكرية/الثقافية وحتى الدينية. الهوية ليست للصراع، الهوية هي صفة المرء وحياته، عاداته وتقاليده. هنا يكون السؤال: لماذا لايكون الأدب معبّراً حقيقياً؛ بعيداً عن كونه تزييفاً؟ خلق ماركيز تعبيره الأهم «مدننا الجميلة» في تسعينيات القرن الماضي، واعتبر من علامات مدرسة «الواقعية السحرية»؛ وجاوبه في ذلك يوكيو مشيما في رباعيته المدهشة «بحر الخصب»، فكتبا عن مدنهما الحقيقية، متجاهلين رغبات المنتجين/أصحاب دور النشر الراغبين في الحديث عن مدنٍ أوروبية فارهة، وعواصم عملاقة وجزر خلابة. يتحدّث هذا النوع من الأدب عن قرى تشبه الناس، قاسية، وادعة أم صاخبة، لديها ميزاتٌ أقل من عادية في كثيرٍ من أحيان لكنها صادقة.
هذه القرى يسكنها أناسٌ عاديون، يمتلكون قصصاً مدهشة. أشخاصٌ يستحقون أن تروى قصصهم، لأن القصص للناس، وبهم تعيش وتقوى. في الإطار عينه لم تنسى هذه المدرسة -كما مدرسة الكتابة الإبداعية- الأساطير والقصص والحكايا الشعبية، فدمجتها كما فعل النيجيري بن أوكري في روايته «طريق الجوع»، أو رواية «رجل يقتحم الطريق» للروائي الجورجي أوتار شيلادزي.
في الأدب هناك نوعان من القصص: المشهدية، والحدثية. تسعى المشهديات لتصوير الأحداث الصغيرة، والإهتمام بالصورة الكاملة، فيما الحدثية هي كلاسيكية: معتادة ومرغوبة منذ أيام «ليلى والذئب» كقصةٍ خلبية مصدرية أولى وصولاً حتى أفلام مارفل ودي سي المقتبسة عن قصص الكوميكس. كي تكون حقيقياً في عصرٍ حقيقي، عليك أن تكتب قصص الناس، كما هي، دون أن يكون في تلك القصص «حدثٌ بارزٌ جلل». ألا تستحق إمرأةٌ تعيش يومها العادي، من المنزل، إلى العمل، إلى بيت أهل زوجها، مروراً بعلاقتها مع أهلها وأطفالها، فضلاً عن عملها رواية/قصة قصيرة تحكي «العادي» من حياتها؟ قد يقول لك «كلاسيكيو» الأدب: كلا. يقول الأدب الحديث، أدب «ورشة الكتابة الإبداعية»: نعم وبشدة.
تحكي الكاتبة بشرى زهوة -كمثال- في قصتها «حالمة في حقل ألغام» (من مجموعة «أنا أسكن ضاحية بيروت الجنوبية» القصصية؛ إنتاج دار المجمّع الإبداعي 2020)، فكرة أشد من البساطة: إنها رحلة الفتاة العائدة من عملها على أوتوستراد الدامور-باتجاه بيروت وهو الطريق العام الذي يقصده آلاف اللبنانيين -كما ساكنوا لبنان- باتجاه الجنوب/بيروت يومياً، هل هناك معتادٌ أكثر من هذا؟ إنه موسم الأبطال العاديين، الأبطال/نحنُ، حيث يصبح الكاتب/القارئ والبطل أناً واحدةً. يأتي البطل -كما الكاتب- من ذات المجتمع والبيئة والمحيط. كّلهم يشبهون بعضهم البعض ويتساوون: سواسية. لا يصبح الكاتب منظّراً/متفلسفاً على أبطاله، لا يجبرهم على القيام بما لايريدون القيام به، بل إنهم -بواقعيتهم وأصالة قصصهم- يجبرونه على رواية قصتهم كما يريدون وكما حدثت لا كما يحب.
يتحدّث الكاتب حسين شكر في قصّته «في فمي ماء» (من مجموعة «أنا أسكن ضاحية بيروت الجنوبية» القصصية؛ إنتاج دار المجمّع الإبداعي 2020) عن حدثٍ يومي معتاد بالنسبة لبطله الذي يعمل نادلاً في مطعم، يغوص في تفاصيله في صفحات القصة الثلاث، ليس هناك من انفجارات وموت وأحداثٍ جلل. إنها «زيادةٌ» بسيطة على المرتّب فحسب؛ لا أكثر ولا أقل. إنها طريقة تقديم الحكاية، فنحنُ شعبٌ يحب الحكايا منذ عصور الكتابة على البردى؛ شعبٌ مفتونٌ بطلاقة المتحدث، وأسلوب روايته لتلك «الخبرية». هلا ضاهر مثلاً في «مكاتيب بنت البواب»، تعيد «تعشيق» أسلوب غسان كنفاني الرائد آنذاك في قصته «موت سرير رقم 12»، الحكاية التي تروى ولا تروى. بدورها، تذهب نور يونس (ومن ذات المجموعة القصصية أيضاً) إلى «الحدث الجلل»، في قصّتها «أصنامٌ مبتسمة»؛ وإن كان حدثاً «جللاً» على مقاسها، فالأدب «شخصي» قبل أي شيء، لذلك لماذا لا تكون التجارب «شخصية» أيضاً؟ نفس الشأن ينسحب على الكاتبة مريم علي في قصّتها «مثلث مكسور الأضلاع» (من المجموعة القصصية «دافنشي لا يجيد الكتابة»، إنتاج دار-المجمّع الإبداعي 2020)، حيث تروي لقاء صدفة مع طليقها، لا حدث جللاً هذه المرّة، إلا بالنسبة لمشاعرها هي.
هذا كله لا يعني أن يكون الأدب مملاً أو معتاداً، فالصدمة في الحكايا هي أصلها: تروي الكاتبة آلاء شمس الدين في قصتها «جلستُ على الأريكة البيضاء وبكيت» (من المجموعة القصصية «دافنشي لا يجيد الكتابة»، إنتاج دار-المجمّع الإبداعي 2020)؛ صدمةً لا يتوقّعها القارئ، من دون أن تتبع تقنية «التويست Twist» المعروفة في الكتابة الإبداعية.
النقطة الأخيرة: نعم هناك حاجةٌ لمدرسةٍ في الكتابة في العالم العربي اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى. نحتاج هذه المدرّسة، كي يكون ما نكتبه قابلاً للقياس، قابلاً لأن تحدد كيف يمكنك «رفع مستواه». نحتاج هذه الضوابط كي يكون هناك «مسطرة» للقياس؛ هذه المسطرة هي ببساطة: التقنية. يقيس الغرب وصنّاع الأدب فيه الأعمال عبر طريقتين: التقنيات المستخدمة في النصوص، ومبيعات هذا الكتاب. في بلادنا، النقطة الثانية مقطوعةٌ بشكلٍ مطلق، إذ إنه من المعروف أنه بإمكان كاتبٍ معين -وقد حصل الأمر مراتٍ ومرات في السابق- أن يلجأ لشراء كتابه غير مرّة -بشكلٍ كامل-، ليقول أنه الكاتب الأكثر مبيعاً في معرض كتابٍ ما. هذا لا يحصل في الغرب، إذ إن مبيعات الكتب تكون مسجلةً بشكلٍ رسمي، ولا يحق لأي كاتب القيام بذلك وبشكلٍ مجهول لأن ذلك سيفضحه لو فعل.
ماذا عن التقنية؟ قد يكون الكلام قاسياً، ومستغرباً حينما نعرف بأنَّه معظم من يسمون أنفسهم بروائيين وكتّاب وقاصين عرب -اليوم- لايعرفون شيئاً عن التقنية في الكتابة. لنأخذ مثلاً «تقنية الحوار» وهي تقنية شديدة السهولة، البديهية والضرورية في آنٍ معاً حيث يجب على الكاتب أن يضع حركةً ونبرةً ونوع صوت لإعطاء المشهد طعماً وحياةً.
في بلادنا؛ لايزال معظم كتاب العرب يضعون هذه الإشارة (إشارة المتحدّث) للدلالة على أن البطل يتحدّث؛ فيما منطقياً نحنُ كبشر حينما نتحدث نعطي نبرةً كما حركةً عند كل كلمةٍ نقولها. هل الأدب هو مصورٌ حقيقيٌ ودقيق للواقع؟ نعم. هل الأدب العربي مع كتابه الحاليين مصورون للواقع الحالي؟ كلا. التقنية تجعل ما تكتبه صادقاً، دقيقاً، قابلاً للقياس، وفوق كل هذا تحمي عملك من الهبوط في المستوى. إذ إن التقنيات كما الرياضيات الكمّية لا تخطئ.
بقي أن نشير إلى البدايات؟ كيف تبدأ وهي أزمة أي كاتب مبتدئ. ماذا عن انسداد أفق الكتابة لدى الكتّاب؟ ماذا لو أصابتك writer block؟ ماذا تفعل؟ هذه أسئلةٌ لمرةٍ قادمة، كلّها إجاباتها بديهية وبسيطة في «ورشة الكتابة الإبداعية». فالأدب الحديث لايقبل بعدم الإجابة على هكذا أسئلة؛ فهي أساسيات العمل وصنعة الكتابة. باختصار، هو عصرٌ جديد، لذلك يلزمه أدبٌ وكتابٌ جدد، كُتابٌ دقيقون، تقنيون، يشبهون بيئاتهم وعصرهم هذا. بخلاف ذلك، يعود الأدب العربي لأدب عصر الانحطاط وأدب الحواة والهواة والدراويش.
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 4 تشرين الأول 2021