يوم فتح الحاج قاسم طريق طهران بغداد دمشق بيروت: «المعبر»... المسرح الانغماسي يشقّ طريقه إلى الضاحية
معلومات عن الكاتب

يوم فتح الحاج قاسم طريق طهران بغداد دمشق بيروت: «المعبر»... المسرح الانغماسي يشقّ طريقه إلى الضاحية




يوم فتح الحاج قاسم طريق طهران بغداد دمشق بيروت: «المعبر»... المسرح الانغماسي يشقّ طريقه إلى الضاحية

اللافت في «المعبَر» أنّه تفاعليٌّ يطرح حكايا وقصصاً من صميم الواقع تقارب القضية الكبرى: المقاومة. يحمل العمل توقيع مجموعة من الفنانين الشباب، يقدّمون ربما للمرة الأولى عرضاً تشاركياً مرتكزاً على الموقع، يشكّل المشاهد جزءاً أساسياً منه. قلّما تشجّعت تجارب عربية ومحلية للانخراط في تجارب مماثلة تتطلّب الكثير من «التضحيات»، خصوصاً مع جمهورٍ ينفضّ تدريجياً عن الفنّ الرابع

لا ريب أنّ الأحداث الكبرى تحتاج أعمالاً فنيةً من ذات النوع. تأتي مسرحية «المعبَر» (إنتاج «مكتب الحاج قاسم سليماني»)، لتحاكي عملاً مقاوماً كبيراً كتحرير منطقة البوكمال (محافظة دير الزور) الإستراتيجية، عبر القائد البارز الفريق الشهيد قاسم سليماني (1957 ــــ 2020). لكنها لا تتناول الحدث بطريقة مباشرة، بل أثر هذا الحدث على الآخرين من أفراد ومجتمعات. عبر ثلاثة مسارات، يرسم العرض في إطار مسرحي انغماسي حكايا ترتبط بالقضيّة المقاومة ككلّ، وتطرح بأسلوب مباشر ودقيق، قصصاً من صميم الواقع تقارب عبرها القضية الكبرى: المقاومة. يحظى «المسرح الموقعي» (المسرح المرتبط بالموقع ـــ Site-specific theatre) الانغماسي بكثير من التقدير في عالم الفنّ الرابع، لما يتطلبه من جهدٍ وإتقانٍ ومتابعة. قلّما تشجّعت تجارب عربية/محلية للقيام بذلك، إذ إنه يتطلب الكثير من «التضحيات»، خصوصاً مع جمهورٍ ينفضّ تدريجياً عن المسرح. في عام 2018، دخلت الأكاديمية والمخرجة والممثلة اللبنانية سحر عسّاف هذه التجربة حين «لبنَنَت» مسرحية «عرس الدم» للشاعر القتيل فدريكو لوركا (راجع الأخبار 18/4/2018) وقدّمتها في بلدة حمّانا (محافظة جبل لبنان)، مستغلةً طبيعة المنطقة بأكملها، وقُدِّمت المسرحية على مساحة القرية بأكملها بين بيوت، وساحات، وشوارع، وأزقة.

تأتي مسرحية «المعبر» اليوم عملاً مقاوماً من نوعٍ خاص تحمل توقيع مجموعة من الفنانين الشباب، المجتهدين والمجدّين في آنٍ معاً، لتعود إلى خوض هذه التجربة، لا عبر قصةٍ واحدةٍ فقط، بل عبر ثلاث قصص مختلفة، تتصل في ما بينها في نهاياتها التي تتقارب أو تتعقد في صورةٍ/ لوحةٍ ختاميةٍ واحدة. تقدّم المخرجة ريان خير الدين، والكاتبان أحمد بزّي وحسن قطيش محاولة جادة لخوض غمار هذا العالم المسرحي المنهك. تنقسم المسرحية إلى ثلاثة مسارات يمكن تسميتها بقصص/ حكايا، إلا أنّ تعبير «مسارات» حتمي، فعلى المشاهد أن يتحرّك من مكانٍ إلى آخر، تبعاً لتحرّك الممثلين كما المشهد. مثلاً في مشهدية «أجلناها»، نحن أمام عائلةٍ من الطبقة الوسطى، تريد تزويج ابنتها نور الهدى (زينب برجاوي) إلى خطيبها نور علي (حسن قطيش)، إذ إنهما مرتبطان منذ خمس سنوات مع تأجيل الزواج مراراً: يجلس المشاهد يراقب صالون منزل العائلة، فيما الحوارات تدور أمامه وحوله. قصةٌ بسيطة معتادة على المسارح اللبنانية، لكن النقلة بعد ذلك، تخرج المعتاد/ المتوقع من عباءته. ينتقل المشاهدون حين يشير إليهم بطل هذا المشهد وكاتبه حسن قطيش، للحاق به إلى «مكتب صاحب الصالة». يتحرّك الجمهور فعلياً ويصبح جزءاً من العرض. هنا يمكن القول إنّ التجربة لا تزال جديدة على صنّاعها، وهذا لا يقلل نهائياً من الجهد المبذول. ربما كان ذلك يتطلّب استدراج الحاضرين إلى نوع أكبر من التفاعل، بمعنى أن ينغمس بطل العمل ويرمي إحدى نكاته لهم، أو أن يسألهم قبل الذهاب إلى المشهد التالي وينتظر حتى إجابتهم قبل الذهاب. لعل هذا ما كان كفيلاً بزيادة تفاعلية المسرح الموقعي/ التشاركي. في المشهدية الثانية التي تحمل عنوان «احتمال»، نحن أمام عالمٍ آخر، وحكايةٍ بعيدة إلى حدٍ كبير عن المشهدية الأولى. إنها حكاية أربعة مقاومين في موقعهم يواجهون قوة تكفيرية، ينقطع الماء عن الأربعة، وهنا تتعقّد الحكاية: هل يقعون في الأسر، خصوصاً مع خوف أحدهم الكبير من التجربة؟ أم يتقدّمون للالتحاق بالشهيد قاسم سليماني، محاولين تحرير منطقة البوكمال؟ الأمر نفسه ينسحب على الحكاية الثالثة التي تتناول المسعف «حسن أبو الحسن» (علي منصور) الذي يشتهر بلقب «عزرائيل»؛ والشهرة تعود إلى «ورا هالإيد ما بتعيد»، بمعنى أنه حالما يلمس «أبو الحسن» أي جريحٍ، فإنه سرعان ما يستشهد. أبطال القصص الثلاث، يتلقون نداءً خاصاً للحاق بالشهيد قاسم سليماني، وتحديداً إلى معبر البوكمال ومعركته المفصلية الشهيرة. يحمل أبو الحسن قارورتي أوكسجين لإيصالهما إلى سليماني نظراً إلى علمه بحاجته إليهما. يرغب الشباب الأربعة في رؤية سليماني، والمشاركة في عملية تحرير البوكمال؛ فيما نور علي يريد إيصال «حرز» (حجاب) لسليماني أعطاه إياه أحد أصدقائه الشهداء. أما نور الهدى، فهي إعلامية، ناداها الواجب لتغطية الحدث في تلك المنطقة الشديدة الخطورة. يظهر الشهيد سليماني ومعبر البوكمال بمنزلة القدر في المسرح اليوناني، لكننا لا نراهما فعلياً (اللهم باستثناء مشهد قصير ختامي)، إلا أنّه لا يمكن تجاهل ذكرهما وسيطرتهما على الأحداث نهائياً. إنهما أشبه بالمشتهى/ المرغوب في الكتابة الإبداعية، حيث يسعى إليهما جميع أبطال العمل، بشكلٍ واعٍ أو لا واعٍ.
قبل أي شيء، تتمثل نقاط قوة العمل في ثلاثة نقاط رئيسية: الأولى أنّ مخرجة العمل اعتمدت بشكلٍ كلي وتام على فريق عمل من ممثلين ومساعدي مخرجين ومصورين ومحضرين وسواهم من خارج الإطار المعتاد/ المستهلك في المسرح اللبناني، فشاهدنا وجوهاً جديدة، بعضها آت من تجارب السوشال ميديا، وبعضها الآخر ربما يمثّل للمرة الأولى. يحسب لفريق العمل أنّه يتمتع بنوع من الحيوية العالية، أكثر من الخبرة أو حتى الاحترافية في التمثيل، لكن ذلك لا يجعله يؤدي بشكلٍ أقل نهائياً. طبعاً هنا تجب الإشارة إلى أن من يأتي للمشاهدة لا يجوز له طلب أداء مشابه لأداء منى واصف أو غسان مسعود، فهؤلاء الشباب يصنعون تجربتهم الخاصة، وما زالوا في البدايات. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل تطور تجربة زينب برجاوي الأدائية، فالصبية التي بدأت مع المخرج والممثل علي منصور قبل أعوام عبر تجارب مسرحية محلية، تطوّرت كثيراً، وقد استطاعت عبر شخصية نور الهدى، أن تؤدي بتلقائية بعيداً عن متكرر شخصية الفتاة المحجّبة المؤمنة/ المتدينة التي استهلكتها مسلسلات «مركز بيروت الدولي». هذا بالتأكيد يحسب للكاتبين أحمد بزي وحسن قطيش. بزي بدوره، يمكن اعتباره واحداً من الكتّاب الدراميين اللبنانيين الشباب الأبرز حالياً، عمل ويعمل على تقديم عدد من المسرحيات مثل «عم تقطش» (مع علي منصور، وإخراج ريان خير الدين) فضلاً عن كثير من الأعمال المشهدية العاشورائية. يمتاز نص بزّي بواقعيته المفرطة، فضلاً عن محاولته دخول النفس البشرية. حسن قطيش، بدوره، يمثّل أيضاً في العمل بدور «نور علي»، إحدى الشخصيات من قصة «أجلناها»، قادم من تجربةٍ السوشال ميديا، إذ إنه معروفٌ في هذا الوسط عبر برنامجه «بالأملية» الذي يقدّم فيه مع زميليه (في المسرحية كذلك) عبد النبي سلمان، وحسين ناصر الدين مجموعةً من الاسكتشات الاجتماعية والسياسية الساخرة. يحسب لقطيش أنه حاول دمج تجربة برنامجه والسوشال ميديا مع المسرح، خصوصاً أنّه قدّم مع فرقة «107» المسرحية عدداً من الأعمال. هذه التجربة تستحق القراءة كما المراكمة عليها ولو شابتها الأخطاء. لكن مجرد المحاولة والمراكمة حتى الوصول إلى الصورة الأنجح أمرٌ يستحق التنويه به. أدائياً، يمكن صقل مهاراته أكثر في هذا المضمار، فالمسرح يتطلب تنبهاً ومراعاةً للمحيط كما للممثلين والجمهور أكثر من الشاشة، التي يمكن الإعادة معها مئات المرات. أما على المسرح، فالأمر أشد تطلباً. لعلّ علي منصور أكثر الممثلين خبرةً بين جميع الحضور، يمتلك حرفة ممثلٍ خاصةٍ به، راكم عليها عبر عددٍ كبير من المسرحيات التي كتبها وأخرجها وأداها، فضلاً عن مشاركته في البرنامج الكوميدي «كتير سلبي شو» التلفزيوني. هذه المرّة يؤدي دور «حسن أبو الحسن» المسعف الذي يلاحقه شبح «موت من يعالجهم». يستطيع منصور بسهولة الخروج من عباءة الكوميديا ليؤدي بجدية، إذ إنه يمتلك حرفته إلى جانب شكلٍ يمكن المراكمة عليه. أبرز وجوه العمل الجديدة هو علي كلوت، الذي يؤدي دور القائد في المقاومة الحاج نزار، وأيضاً صاحب الصالة بهجت سرور، وأيضاً المحقق. يمتاز كلوت بسلاسة عالية في الأداء، وقدرةٍ على التنويع في شخصيته، إلى درجة أنّ المشاهد لا يشعر أنه أمام الشخص نفسه، بالتأكيد هناك بعض الأخطاء الصغيرة الناتجة عن عدم الخبرة، لكن ذلك يمكن تلافيه بسهولة. وأخيراً، يؤدي حسين محيي الدين دوره بصدقية عالية.

طريق الخروج من العرض صُمِّم على شكل نفق مشابه لأنفاق غزّة

المخرجة ريان خير الدين، كانت قد قدّمت عدداً من الأعمال المسرحية، ربما آخرها «أبجدية النصر» التي كانت بمنزلة عمل مسرحي «مواكب» قدمته للمقاومة في عيدها الأربعين ساردةً تاريخها آنذاك، وقد كان النص المكتوب والرؤية للمهندس محمد كوثراني. جهدت الشابة المجتهدة ونجحت في تقديم عمل يتضمن أكثر من عشرين مؤدياً، وثلاث مشهديات بمسارات ووقفات مختلفة، وعدداً كبيراً من المؤثرات والسينوغرافيا المختلفة. يعتبر هذا العمل بمنزلة ولادة جديدة لمخرجة يمكن المراكمة على مهاراتها وتقنياتها في أعمالٍ مشابهة لاحقة. طبعاً الحديث عن المسرحية، ينسحب على فريق العمل النشط من مديرتي المسرح فاطمة باز وملاك بزي. باز تولت أيضاً تصميم الملابس والإكسسوارات، فيما أدّت ملاك دور مساعدة المخرج في العمل، إلى صانع السينوغرافيا الجميلة أيمن جابر، الذي بذل جهداً كبيراً في تقديم «واقعي» لمشاهد القتال والرصاص والانفجارات. تشارك جابر مع محمد مهدي وفاطمة جابر في صناعة ديكور المسرحية كذلك، فيما ألّف موسيقى العمل حسن حريري. يذكر أنه حال اختتام المسرحية، يمكن ملاحظة طريق الخروج من العرض الذي صُمِّم على شكل نفق مشابه لأنفاق غزّة الشهيرة. تزدان هذه الأنفاق بجداريات وصور وأقوال لقادة مقاومين شهداء، فيما يرتدي شبانٌ ثياب كتائب المقاومة من «سرايا القدس» (جناح الجهاد الإسلامي العسكري)، و«كتائب الشهيد عز الدين القسّام» (جناح «حماس» العسكري) فضلاً عن «كتائب الرضوان» و«حزب الله». ويتولى هؤلاء الشبان مهمة الدليل أثناء المسير في النفق الصغير.

باختصار، «المعبر» يستحق المشاهدة، يقدّم ربما للمرة الأولى عملاً مسرحياً مرتكزاً على الموقع، تشاركي، يحضر فيه المشاهد كجزء من العمل لا خارجه. تكمن ميزة العمل ــ قبل أي شيء ـــ في أنّ صنّاعه هم من رحم الأرض ذاتها، من البيئة عينها، معظمهم من الشباب يراكمون على هذا التجربة التي تعد بالكثير، وتمهّد لأعمالٍ متقدمة وخاصة.

 

نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 23-1-2024