في أوّل مرةٍ التقينا؛ هنا في بيروت حينما كنتَ ضيفاً على مهرجانٍ للشعر المقاوم، كنتُ مبهوراً بك؛ فأخذت بالتحدّث بسرعة المفتون بحرفة أستاذه. قلت لي بلكنتك المحببة: «يا عبدالرحمن -مشدداً على الدال تحبباً وحرفةً في اللغة التي سرعان ما أصبحت جزءاً من صداقتنا- تحكي بسرعة حال الحب والافتتان». قلتها وضحكنا معاً. يومها كانت الطريق إلى «مليتا» الطويلةُ عادةً قصيرةً للغاية. دخلنا المحاضرة، بعد نصف ساعة، كنتُ قد وهنتُ من الكلام المتكرر والمعاد، نظرتُ إليك وأنت جالسٌ بجانبي. أحد أهم الشعراء الفلسطينيين، أحد الأربعة الكبار شعرياً وأدبياً، وخالق أسطورة «الجفرا»، نظرتُ إليك وقلتُ بصوتٍ هامس: سأهرب من القاعة. نظرت إلي ثم قلت: اطلع وسألحقكَ. لم أصدق أنه من الممكن أن تفعلها، وفعلاً بعد دقائق خرجت: «قلتلهم ظهري وجعني» قلت ضاحكاً. وتمشينا معاً لأكثر من ثلاث ساعات في معلم مليتا. خفتُ عليك من التعب خلال ذلك الوقت، لكنك صححت لي: «بعدني شباب»، فأكملنا. قلت لي إن الطريق هذا -طريقنا نحو فلسطين- طويلٌ وموحشٌ ووحيد. وأنّه علي ألا أسلكه، ثم ضحكت وأردفت: شو يعني هو خيار، طالما انت هيك، رح تمشيه، ثم أردفت: «بس اصحك تمشيه لحالك»، أخبرته بأنني لستُ وحيداً.
حكيت لي كيف بحثت عن جفرا، سنوات وسنوات، حكيت لي عن محمود درويش وعلاقتك به، وسخرنا كثيراً من مدعي الشعر، وقرأت لي من شعرك الكثير. اللذة في كل هذا؟ أنك أصغيت إلى كلامي وسمعتني أتحدث كثيراً عن الحياة والدنيا والحب والفكر. حدثتني عن طلابك في الجامعة، وكيف أنَّك تعاني أحياناً من عدم اهتمام أجيالٍ جديدة باللغة العربية، وكيف أنَّ المشكلة في من يعلّمون، لا في اللغة. حكيت عن فلسطين، عن ديوانك الذي كان جديداً آنذاك «البنات البنات»، وكيف أنَّ اللغة الشعرية تتطوّر، وأن الشاعر الذي لا يتطوّر يفنى وينقرض. في اليوم الثاني على لقائنا، كنت قد أخبرتني حتى مواعيد دوائك اليومية، لذلك ومع أنني أنسى كثيراً، تذكرت موعده أثناء موعد العشاء، ضحكت وأخبرتني، اعمل حالك مش متذكر. ضحكت ولكنني أصررت. كنت أخافُ عليك. هي المرة الأولى التي أشعر بأن لي والدٌ آخر. كنت والدي «أخوي» عزالدين. في اليوم الثالث، وقبيل سفرك، قررنا الحضور، نون وأنا، كي نودّعك، ونفطر سوياً. ضاحكاً حكيت لنا الكثير من نوادر الشعراء وقصصهم، عن شرفة محمود درويش، عن علاقته بعبدالوهاب البياتي، عن صنعة الشعر وحرفته، عن مهارات الشعراء في اعداد الطعام. حكيت لي عن سفرك، وهجراتك الطويلة، وخروجك من فلسطين، وقلة ابتسامك في الصور. كنت شاباً أكثر منا، تحكي وتتحدّث وتشير، وتبتسم كثيراً لأناس لربما لاتعرف من هم، فأنت عز الدين المناصرة. روحك المرحة وتواضعك وسعة معرفتك والكثير الكثير من ألق شاعرٍ يعرف الشعر كما لو أنه هو.
يومها، ودعناك وليس على أمل إلا أن نتواصل ونتواصل ونتواصل. وهو ما كان عبر الإيميل، كونك كنت تكره الفيسبوك، والذي كنت سأعدّه لك، لولا اصرارك أنك لاتريد. أفقدك اليوم، كما لو أنني أفقد شيئاً مني. أفقدك اليوم، كما لو أنني أفقد قطعةً من روحي. أذكر أنك حين ودعتني، همست في أذني وقلت ببطء على عادتك: يا عبدالرحمن، خليك زي ما انت ما تتغيّر، الوقت بده يغيرك، بس انت ما تتغيّر. يومها شعرت بأنك تمازحني، على عادتك، وروحك المرحة ظلت كما لو أنّها لم تشخ يوماً. لأجيبك: شو بدي أتغير، مش شكلي والله.
وداعاً، يا ابن بني نعيم، يا أمير الجليل الموقد الضوء في عتمة الليالي، يا مضيء الجفرا في ليالي فلسطين الحالكة، يا ضوءاً كان ولايزال ينير. وداعاً عز الدين المناصرة؛ يا عين الشعر العربي، واسطورة الفلسطيني العائد، كما لو أنّه لم يته أبداً.
*العنوان من قصيدة «أضاعوني» للشاعر الراحل عز الدين المناصرة
*نشر في جريدة الأخبار بتاريخ 5 نيسان 2021
https://al-akhbar.com/Literature_Arts/303181