استنفر بعض القضاة في لبنان مطالبين بحقهم في سلطة قضائية مستقلة، فاقتحموا ساحات وسائل التواصل الإجتماعي رافعين شعار المظلومية التي لحقت بهم من قبل مجلس القضاء الأعلى، بعد سلسلة دعاوى قُدمت في حق بعضهم بتُهم مختلفة، وطلبوا مساندتهم في هذه المعركة. إلا أن الأمر لم يقتصر على هذا الحد، بعدما أدخل بعض القضاة أنفسهم في جدالات واتهامات أظهرت حجم التباين والإنقسام في المؤسسة القضائية
لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت نافذة مهمة للتعبير عن الرأي والتأثير في الرأي العام. إلا أن استخدام هذه المنصات من قبل بعض الشرائح، كالقضاة مثلاً، يطرح أسئلة عديدة حول كيفية استخدامها على نحو لا يمس بمكانة القضاء ودوره في تحقيق العدالة.
فمشاركة تعليق على حدث معين أو نشر آراء وصور أمور عادية، أما بالنسبة إلى القاضي فقد يؤدي ذلك الى تداعيات ومخاطر معينة. فالقاضي ينبغي أن يلتزم بمعايير الحياد ويحافظ على كرامة القضاء واستقلاله، وأي إستخدام لا أخلاقي لتلك المنصات قد ينعكس على سمعة القضاء ككل.
يعتبر بعض القضاة أن إستخدام وسائل التواصل الاجتماعي يساعدهم على التقرب من المجتمع ونشر خبرتهم وخلق مساحة من الثقافة القانونية. لكن، ولأن لبعض المنشورات تداعيات سلبية، شكّل دخول القضاة الى العالم الإفتراضي حالة جدلية، فانقسمت الآراء بين من يعتبر القاضي فرداً من المجتمع يحق له التعبير عن رأيه عبر هذه المنصات، ومن يحذّر من أنّ إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي قد يضّر بسمعة القضاء ونزاهته ويحدّ من ثقة الناس بالمحاكم. ودعا إلى إعتماد معايير قانونية تنظم إستخدام القضاة لوسائل التواصل الإجتماعي.
في لبنان، يعاني القضاة من تغلغل السلطة السياسية في القضاء، ما يعيق مسار التحقيقات، خصوصاً تلك التي تتعلق بمكافحة الفساد وإسترداد الأموال المنهوبة ولاحقاً التحقيق في إنفجار المرفأ. هذا الأمر زاد من الضغوطات التي يواجهها القاضي بعدما وضِع في موقع المُتهم، فلجأ بعض القضاة الى وسائل التواصل الاجتماعي لرفع الصوت، والدعوة إلى «ثورة قضائية» و«تطهير القضاء». فهل من معايير ينبغي على القضاة مراعاتها لدى استخدامهم تلك المنصات؟ وهل تعرضهم هذه المخالفات للعقوبات التأديبية؟
تغريدات خارج السرب القضائي
اكتسبت منصة «تويتر» أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة، نظراً إلى السرعة التي تتيحها لتبادل المعلومات، والقدرة على الوصول الى الفئة المستهدفة بشكل أدق. وهذا ما دفع بالقضاة في لبنان إلى إستخدام هذه المنصة؛ سواء للتعبير عن آرائهم، أو لنشر الوعي المجتمعي والثقافة القانونية. وأبرز القضاة هم:
1. النائب العام الأستئنافي في جبل لبنان: في 12 نيسان، أحيلت قاضية إلى التفتيش القضائي لمساءلتها عن تصريحات أدلت بها خلال زيارتها لباريس برفقة مرشح للإنتخابات النيابية، بعد تصنيف هذه التصريحات في خانة تسريب شؤون قضائية، والتشهير بزملائها القضاة. إلا أن القاضية شككّت في صوابية الإتهام ودافعت عن نفسها عبر سلسلة تغريدات على حسابها. ومن خلال نظرة سريعة للحساب على «تويتر»، يتبين عدم التقيد الواضح بموجب التحفظ الذي أشارت له «المدونة الأخلاقية». وجاءت أبرز التغريدات على الشكل التالي:
- نشر تغريدات تحت عنوان «الجردة» تضمنت اتهاماً لرئيس التفتيش بالتقاعس عن ملاحقة بعض المتهمين، ومحاولة إيقافها عن متابعة التحقيقات في بعض الملفات من خلال إتهامها وإحالتها للتفتيش.
- وضع علامة إعجاب (like) لحديث أحد مرشحي الإنتخابات النيابية.
- إعادة نشر (retweet) لتغريدات ذات طابع سياسي معين.
- إعادة نشر (retweet) لتغريدات وفيديوات تتعلق بأحد المدعى عليهم.
- اتهام مباشر لأحد القضاة بالخوف بعد تنحيه عن العمل.
- اتهام النائب العام التمييزي في قصر العدل بأنه جزء من شبكة المصالح المهيمنة على الدولة.
2. رئيس نادي القضاة ورئيس دائرة التنفيذ في بيروت: بحكم رئاسته نادي القضاة، أكد على حماية حق القضاة في التعبير المكرّسة في كل المواثيق والعهود التي يلتزم بها لبنان من دون أي إذن أو موافقة من أي كان.
وفي حسابه الخاص،حملت بعض منشوراته انتقادات مباشرة للسلطة السياسية باستتباع القضاة وتعيين قضاة «فاشلين» في مراكز حساسة.
3. المحامي العام المالي: على خلفية التحقيق في دعاوى عدة، اتهمه أحد الإعلاميين بالإخلال الوظيفي، والتحايل على القضاء. نشر تغريدة وضّح فيها الالتباس الحاصل ودافع عن نفسه ووعد متهمه بملاحقة قضائية، فتنوعت الآراء بين مؤيد للقاضي وبين من طالبه بالدفاع عن نفسه من خلال القضاء.
4. مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية: بعد تقديم إستقالته وانتظار توقيع رئيس الجمهورية عليها، أمضى وقته بالتنقل بين موقعي التواصل الإجتماعي «فيس بوك» و«تويتر»، مطلقاً العنان لسلسلة منشورات وتغريدات يوميّة تبحث في شتّى صنوف الحياة، من السياسة إلى الإقتصاد، إلى القانون إلى الطبّ. بعدها «استعجل إنهاء حياته القضائية على طريقته بعد إنتقاده أداء زميلته».
يعاني القضاة من تغلغل السلطة السياسية في القضاء، ما يعيق مسار التحقيقات، خصوصاً تلك التي تتعلق بمكافحة الفساد وإسترداد الأموال المنهوبة
في القانون اللبناني
يعتبر (المرسوم التشريعي رقم 150/83) وتعديلاته المصدر الرئيسي للقانون المنظم للقضاء العادي والذي يحدد الإطار المتعلق بالمسائلة القضائية. فوفقاً للمادّة 83 منه «كل اخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف أو الكرامة أو الأدب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبياً». يعتبر إخلالاً بواجبات الوظيفة التخلف عن الجلسات، وتأخير البت بالدعاوى والتمييز بين المتقاضيين وإفشاء سر المذاكرة (الجلسات).
وتنص المادّة 89 من (المرسوم 150/83) على أن «العقوبات التأديبية تتضمن التنبيه، اللوم، تأخير الترقية لمدة لا تتجاوز السنتين، إنزال الدرجة، التوقيف عن العمل بدون راتب لمدة لا تجاوز السنة، الصرف من الخدمة، والعزل مع الحرمان من تعويض الصرف أو معاش التقاعد».
بالنظر الى الأمثلة التي ذكرها المرسوم، فإنها تعتبر غير شاملة ولا تحدد المعايير التي يقتضي على القاضي اتباعها. هذا الأمر ينطبق أيضاًعلى العقوبات التي لا ترتبط بنوع معين من المخالفة التأديبية مما يعرض القضاة الى عقوبات تعسفية من قبل المجلس التأديبي.
وفي العام 2005، اعتمد وزير العدل «القواعد الأساسية لأخلاقيات القضاء» بموافقة كل من مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة. تم اعداد هذه القواعد من قبل لجنة مؤلفة من الرئيس الأول لمحكمة التمييز- رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس مجلس شورى الدولة، والرئيس الأول لمحكمة التمييز شرفاً، ورئيس هيئة التفتيش القضائي شرفاً.
تضمنت قواعد أخلاقيات القضاء ثماني قواعد وهي على التوالي: «الاستقلال، التجرد، النزاهة، موجب التحفظ، الشجاعة الأدبية، التواضع، الصدق والشرف، الأهلية والنشاط». لم تصدر هذه القواعد في صورة قانون، لذا يمكن اعتبارها وثيقة استشارية، ويذكر مدخل القواعد أن «خيار الوثيقة الملزمة معنوياً هو أفضل من خيار المبادىء المقننة في تشريع وضعي»، وأن محتوى الوثيقة «لا يشكل بالضرورة قواعد لنظام تأديبي رادع وشامل».
استوحت هذه القواعد من شرعة بنغالور العالمية للأخلاقيات القضائية، الا أنها تمايزت عنها في بعض القواعد. حيث حددّت شرعة بنغالور ست قيم أساسية: الأستقلالية، والحياد، والنزاهة، واللياقة، والمساواة، والاختصاص والحرص . وبالعودة إلى المعايير الأخلاقية التي يقتضي على القضاة إتباعها عند استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذه القواعد تشكل مرجعاً لهم وتضبط إنجرارهم خلف انواع مختلفة من المخالفات التي تخلقها منصات التواصل المتنوعة.
فموجب التحفظ مثلاً: يشير الى أهمية التزام القاضي بطريقة عيش تناسب مهنته والابتعاد عن كل مظهر رخي. وأن يتنبه الى علاقاته الشخصية، والامتناع عن المجاهرة بأي رأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرده، وعدم البوح بأي معلومة وصلت اليه عن طريق وظيفته.
في أميركا: عقوبات تأديبية للتجاوزات الأخلاقية
واجه عدد من القضاة في الولايات المتحدة عقوبات تأديبية بسبب منشورات على «فيسبوك».
ففي ولاية مينيسوتا ، تم وضع علامة على القاضي في قضية القاضي ماثيو إم كوين (2021) في عدة صور على «فيسبوك»، بما في ذلك واحدة كان يرتدي فيها قبعة MAGA ويقود قاربًا عليه علمان على الأقل من ترامب في موكب قارب ترامب. أعجب القاضي أيضًا بالعديد من منشورات ترامب. ورأى المجلس أنه لا يمنع القضاة من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومع ذلك، يجب أن يتوافق استخدام Facebook مع مدونة السلوك القضائية.
في 28 أبريل 2021 ، صرّحت لجنة آراء أخلاقيات القضاء بالمحكمة العليا في كاليفورنيا ("CJEO") أن للقضاة كل الحق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ولكن ينبغي افتراض أن كل شيء سيكون في متناول عامة الناس بغض النظر عن الاحتياطات المتخذة لتقييد الوصول إليها. خلص CJEO في رأي استشاري نُشر على موقع اللجنة على الويب إلى أنه يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإصدار بيانات متعلقة بالقانون، لكن اتصالاتها تخضع لنفس المبادئ الأخلاقية مثل أي نشاط قضائي آخر.
القضاة، على سبيل المثال ، ممنوعون من الإدلاء بأي تصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي من شأنها أن تعرض حيادهم للخطر، أو تشوه سمعة القضاء، أو تشكل تعليقًا سياسيًا محظورًا. وبينما لا يُسمح للقضاة بالتعليق على قضايا محددة، يتم تشجيعهم على المشاركة في مجتمعاتهم لتحسين النظام القضائي. قد يستخدم القضاة وسائل التواصل الاجتماعي لإصدار إعلانات قانونية بنفس الطريقة التي يفعلون بها في الأماكن التقليدية، طالما أنهم يفكرون بعناية في ما يريدون نشره ومراقبة الردود لضمان الامتثال المستمر .
في عام 2020 ، وجهت لجنة ولاية نيويورك للسلوك القضائي اللوم إلى قاضي محكمة مركز مدينة برونزويك روبرت شميدت لنشره مذكرة تشير إلى أن الرئيس السابق بيل كلينتون قتل جيفري إبستين، وربطها بمنشور آخر على «فيسبوك» يدعم مرشحًا لمجلس المدينة، ضمن أشياء أخرى.
في 2021 ، قام مجلس تينيسي للسلوك القضائي Tennessee Board of Judicial Conduct بتوبيخ علني لقاضي محكمة جلسات مقاطعة هاميلتون جيرالد ويب لمشاركته ما كان من المفترض أن يكون نصيحة قانونية .
غروبات فيس بوك وصور شخصية وعائلية
إختار بعض القضاة التواصل مع المعارف والأصدقاء ونشر آرائهم المطوًلة من خلال تطبيق «فيس بوك»، إضافة إلى ميزة إنشاء «غروب» يضم عدداً كبيراً من الأصدقاء يمكنّهم من التواصل والنقاش حول مسائل محددّة. وأبرز القضاة هم:
1. القاضي المنفرد الجزائي في بعبدا: بعد الإدعاء عليه من مجلس القضاء الأعلى بتُهمة تحقير القضاء والقضاة على خلفية إنسحابه من جلسة محكمة الجنايات، ونشره اتهامات بحق زملائه، أكد أن هذا الإجراء لن يثنيه عن نشر الحقيقة، ودعا الى مساندته ودعمه في معركته تحت شعار «الثورة القضائية» و«تطهير القضاء». وكان القاضي قد أنشأ سابقاً «غروب» تحت مسمّى «القاضي الثائر» يدعو من خلاله إلى إطلاق صرخة وثورة مطلبية لإستعادة حقوق المودعين، والدعوة إلى إجتثاث الفساد وإستقلالية القضاء. وفي تعليق مُلفت يُشير القاضي إلى أننّا نعيش في ظرف إستثنائي يتطلب منّا توسيع هامش «موجب الشجاعة الأدبية» مع الأخذ في الإعتبار «التحفظ البناء والمسؤول».
2. قاضي التحقيق في الشمال: حثّ في أحد منشوراته المواطنين على الإنتخاب بإعتباره الحل الوحيد للإصلاح. ويشارك مع متابعيه صوره الشخصية خلال رحلاته الخاصّة وصوراً تجمعه بعائلته.
3. النائب العام الإستئنافي في النبطية: حسابها يتضمن صوراً لرحلاتها مع عائلتها، وحفلاتها الخاصة مع أصدقائها.
نُشر في ملحق القوس الصادر عن صحيفة الأخبار اللبنانية بِتاريخ 4 حزيران 2022
قضاة أونلاين | القوس (alqaous.com)