يسرق الغرب أفكارنا، وتراثنا وتقاليدنا، هذه المرّة ليس بالشكل الذي نعرفه: أن يحمله وينقله إلى بلاده، أو حتى يهرب به. هذه المرّة يسرقه على شكل أفكار، آراءٍ، وجهات نظرٍ وسلوكات. بعد ذلك يعيده إلينا مقولباً بطريقة أكثر بريقاً، وجمالاً وخلبيةً. نحن –كحضارةٍ حاليةٍ تابعة- نتلقف ذلك «البريق الخاطف». ننسى أنه لنا، فنفرح بوجوده ونقرأه ونحبذه ونتفق مع أفكاره، ولا نشعر البتة بأن ثمة شيئاً خاطئاً. في الإطار عينه، يمكن التنبه كثيراً لكيّ الوعي المدهش الذي تمارسه الميديا الغربية باستمرار لإقناعنا كشعوب عالمٍ مختلف عن «عالمهم الأول» بأننا دائماً بحاجة للمساعدة. نحن دائماً قاصرون، وسنبقى بحاجةٍ إما إليهم بشكلٍ شخصي للاستمرار كما الحياة، أو لعلمهم وثقافتهم ووعيهم.
في Dune فيلم المخرج الفرنسي الكندي دوني فيلنوف المقتبس عن القصة التي كتبها الأميركي فرانك هيربرت عام 1965، والمأخوذة بقدّها وقديدها من ثقافة «الاحتلال» للمشرق: إننا أمام كوكب الصحراء الذي يدعى «أراكس» أي «الراقص» (Arrakis) وللعلم «الراقص» هي التسمية الأولى لكوكب الأرض بحسب بعض القبائل العربية البدوية. إنه الكوكب الوحيد في المجرّة الذي تُستخرج منه «توابل» ذات نوعية خاصة تستخدم للملاحة الفضائية. لذلك فإنه من المنطقي أن تتصارع عليه الدول «الكبرى». هنا في القصّة لا دول كبرى، بل «عائلات» كبرى تحتل كواكبا سمّى بإسمها: أتريدس وهاركونيان.
القصة بمجملها «استنساخات» ثقافية: بماذا تذكّرنا هذه الصحراء الممتدة التي يحمل الفيلم اسمها؟ ألم يصف تي أتش لورانس (لورانس العرب) الصحراء العربية بأنّها كثبانٌ من الذهب Dunes of gold؟ وهذه التوابل المستخدمة في الملاحة، أليست البترول؟ ذهب شبه الجزيرة العربية الأسود الخبيء في جوفها؟ ماذا عن سكان ذلك الكوكب؟ ويا للمصادفة، إنهم يلبسون لباسنا نحن، يحملون «خناجر مقدسةً» لا يخلعونها عن أجسادهم إلا للاستخدام أو إراقة الدماء (ألا يذكرنا هذا بالجنبية اليمنية؟)؛ حتى أنّهم يؤمنون بالمهدي (ظهرت الكلمة بحرفيتها في الفيلم)، أو كما يعرف في فيلم «كثيب» الحالي بتسمية «لسان الغيب»، أو «المؤدب» (Muad-Dib) كما في النسخة المكتوبة أو حتى فيلم المخرج ديفيد لينش المأخوذ عن القصة ذاتها في العام 1984. ماذا عن «الشيء الخالد» أو Shai-hulud (حرفياً هي شيء الخلود) وهي الدودة العملاقة التي تلتهم كل شيءٍ في الصحراء المترامية؟ طبعاً في الرواية هناك إشاراتٌ أكثر: طقوس، شيطان، شريعة، حتى إن إبنة البطل لاحقاً ستسمى «علية» (alia) ماذا عن الحضارتين اللتان تحتلان ذلك الكوكب؟ إنهما حضارتا الغرب القديمتان في صراعهما الأبدي: يظهر الإسبان كالهاركونيان، من خلال رأس الثور الضخم الذي يحتل جدار حائط إمبراطورهم، فيما يظهر آل آتريدس كالبريطانيين؛ طبعاً يمكن «للحضارتين المحتلتين» أن تكونا أي حضارتين غربيتين، لا شك في ذلك.
وعلى عادة الأفلام الموجّهة ذات البروباغندا، يصبح بطل القصّة/ الفيلم بول أتريديس (يؤدي الدور في الفيلم الممثل الشاب تيموثي شالميت) «الأبيض القوقازي ذو الملامح الغربية» (The White Caucasian) المحرر المنتظر لشعب الصحراء الذي ينتظر «مهديه». إنها القصة الممجوجة حول white savior يأتي لينقذ الشعوب الملونة الأصلية صاحبة الأرض (indigenous) التي تفتقر بكليتها لقائدٍ بحكمته واختيار الإله له. هي حتمية ذلك «الإصطفاء» الإلهي لهذا «الغريب» الذي يصبح «سيد» هذه الشعوب وقائدها الملهم. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى هناك «الصورة النمطية» الغربية المفترضة التي نقبلها –ولا نزال- كحضارة منذ سنواتٍ طوال: إننا لا نصلح «لحكم أنفسنا»؛ إنها كما يشير الكاتب المصري بهاء طاهر في روايته «واحة الغروب» في نقاشٍ يجمع بطل العمل المصري مع زوجته الإيرلندية إثر تعرفهما؛ فيقول لها حين تحدّثه عن التراث الفرعوني وعظمته: «هو دا المجد اللي بيكتشوفهولنا الغرب عشان نعرف أد ايه كنا عظماء وأد ايه بقينا صغيرين، المجد للأجداد، أما الأحفاد فلا يصلحون إلا للإحتلال».
أما في مسلسل Foundation المعروض عبر منصة «أبل بلس»، والمأخوذ عن رواية الكاتب وعالم الكيمياء الأميركي -الروسي الأصل- اسحاق عظيموف التي بدأها بقصصٍ قصيرة في العام 1942، ليتمم أجزاءها الثلاثة الأولى في العام 1953، فتوجد ظفر حليمة (Zephyr Halima أو لربما زفير حليمة، نسبةً للحجر الكريم) الكاهنة السمراء التي تشبه المشرقيين، صاحبة الديانة المأخوذة عن الإسلام. مثلاً، تفرض الحج على أتباعها، إلى منطقةٍ صحراوية نائية، حيث يمر الحجّاج بطقوسٍ «تطهيرية» صعبةٍ وشاقةٍ.
هذه الصعوبات استقصاها عظيموف من سلوك الحج الإسلامي في تلك الأزمنة حين كان السفر إلى الديار المقدّسة شاقاً، وأساليب النقل تجعل تلك الطقوس صعبةً للغاية، مما كان يعرّض الحجّاج للكثير من المخاطر. حليمة تقرر مواجهة الإمبراطور حينما تترشح كي تصبح الزعيمة الدينية الأوحد لدينها/ طائفتها التي تمتد عبر كواكب كثيرة ويقدّر أتباعها بالملايين. عندها، يقرر الإمبراطور (يؤدي دوره لي بايس الذي عرفه الجمهور بدوريه ثرندال في ثلاثية «الهوبيت» لبيتر جاكسون ورونان المعاقب في عالم مارفل السينمائي وتحديداً في فيلم «حماة المجرات») أن يزورها في كوكبها الشبيه بجغرافيا شبه الجزيرة العربية الصحراوي، لمواجهتها والطلب منها التريّث في هذا الصراع المرعب، عارضاً عليها رشاوى مناسبة.
حليمة تواجهه بما يشبه «النمطية/الأرثوذكسية»: «أنا لا يهمني هداياك أو تهديدك لي بالموت، ولكن يهمني أن أكون مخلصة لما أؤمن به». هنا يلجأ الإمبراطور إلى الحيلة حينما يصر على خوض غمار الحج هذا، والتفوّق عليها عبر إنهائه بالخدعة. ما يميز عمل عظيموف عن قصة هيربرت أنَّ عظيموف قرر أن يرفع من مستوى الصراع: فكان الصراع بين العلم القائم على الأرقام الذي يقوم به معلم أبيض (white master) وهو هاري سيلدون أستاذ الرياضيات وعلم اللوغاريتميات التوقعية الذي لا يخطئ في توقع المستقبل، وسيلدون -للمصادفة- يمتلك تلميذين ملونين، كما لو أنَّه يجب على الملون دائماً أن يكون تابعاً. طبعاً الإمبراطور –كما سيلدون- هو «أبيضٌ» كذلك، من ذات العرق «المتفوّق» ويحكم حضاراتٍ متعددة يسكنها ملوّنون بالتأكيد. وفي هذا يشترك هذا المسلسل معDune؛ وما يشتركان به أيضاً، هو محاولة الملوّنين في كلا العملين القيام بثوراتٍ وانتقامات من حكّامهم الظالمين. بعضها قد ينجح: لكن ذلك يحدث –أي النجاح- إما بقيادة الفارس الأبيض القادم لإنقاذهم بنفسه، أو عبر أفكار وآراء ووجهات نظر المنظّر/ المعلّم الأبيض صاحب التعاليم المنقذة.
في الإطار عينه، يندر أن نجد رواياتٍ عربية، تحاكي هذا النوع من الصنعة الأدبية الخاصة في العملين: أعمال محبوكةٌ بعناية وبصنعة قوية استطاعت من خلالها الحياة لسنواتٍ طوال والإستمرار والإبهار في آنٍ معاً. لا ننسَ –هنا- أن صانعي العملين عظيموف وهيربرت تناولا ثقافاتٍ لإناس لا يعرفونهم بالمباشرة، بل من خلال ثقافتهما وقراءتهما وتحليلهما حول هذه الثقافات؛ وهذا يحسب لهما. لكنهما في النهاية أديا الدور، وكتبا نصوصاً تمتلك خصائص اكزوتيكية (exotic nature) تجذب قراءهما الغربيين لعوالم المشرق (وإن بشكلٍ خلبي). نفس الأمر ينسحب على العملين الدراميين المنتجين تلفزيونياً وسينمائياً، إذ هناك حرفةٌ كبيرة، وكلفة إنتاجية عالية، وفريق مدرّب أنتج عملاً مطبوخاً بعناية.
نقطة أخيرة: تحتفي هذه المنتوجات الثقافية بشعوبٍ تغوص وتزدهر بثقافتها الأصيلة، وهو ما ينقرض شيئاً فشيئاً في وطننا العربي: صحيحٌ أن الصحراء لم تختف، لكن ثقافتها تضمحل، فتحل ثقافة الجينز والكوكا كولا والبيسي مكان النخيل والتمر؛ وتغيب النباتات والزراعات التي تميّز بلادنا، مقابل الإستيراد والأعمال الحرّة والبنوك والبورصة وأحلام الثراء السريع؛ مبشرةً بحضارة هجينة: ثقافةٍ استهلاكية بامتياز.
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 9 تشرين الثاني 2021
https://al-akhbar.com/Literature_Arts/322775