لا يعرف كثيرون خارج البحرين، عن الوضع الحقيقي الذي مرّت ولا تزال تمرُّ به تلك البلاد الوادعة، الجالسة على كتف الخليج العربي. يأتي كتاب «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدراز» (مركز أوال للدراسات والتوثيق)؛ واحداً من تلك الأصوات القوية التي تروي ما حدث في إحدى المواجهات الحاسمة في تاريخ ذلك البلد الصغير.
هو صراعٌ بين «شرعية» السلطة الحاكمة المستمدّة من عائلة إقطاعية/ ملكية تحكم بالحديد والنار، وبين معارضة اختارت السلمية كأسلوب مواجهة، على غرابة ذلك الاختيار وابتعاده عن طقوس المنطقة وفولكلورها المسلّح. الحكاية التاريخية هي أنَّه في عام 2016، أعلنت السلطات البحرينية إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم المرجع الديني، والمفكر الرئيسي للثوار البحارنة، والمرشد لجمعية «الوفاق» البحرينية، المعارض الأبرز والقوي لنظام الملك حمد بن خليفة.
يومها، انطلق على مدار عامٍ تقريباً، اعتصامٌ مفتوحٌ في منطقة «الدراز» حيث يقطن قاسم. على مدى عامٍ كامل، مارست السلطات البحرينية، جميع أنواع السلوكيات التي تشابه إلى حدٍّ كبير – بحسب الكاتب – سلوكيات العدو الصهيوني في التعامل. إذ يروي الكتاب بالتفصيل كيفية «حصار» الناس، والحواجز العسكرية المسلّحة، وطرق الاعتقال ووحشيتها وقسوتها التي لا تشبه سلوك الشرطة المعتاد، في التعامل مع مواطنيها: «أخرجونا من بيت الشيخ، وأمرونا بالوقوف في مواجهة الحواجز الإسمنتية التي تحيط بالبيت، وبعد وقت أمرونا أن نلتفت إلى الخلف ونقابل «الحوش».
وهنا رأينا المشهد الكربلائي: الشهداء والمصابون ملقون على الأرض ودماؤهم تجري. وعلى الرغم من اصطفاف سيارات الإسعاف على طول الشارع، لم يتم إسعاف أحد من الشهداء أو المصابين. وما إن قلت نعم، حتى بدأ بصفعي على وجهي وأسناني وركلي في كل الجهات». تتوالى شهادات المشاركين والمشاهدين وحتى الشهداء في تلك المواجهات.
يتناول الكتاب في فصوله الخمسة، خمس جنباتٍ للحدث: المرابطون عند الباب الأخير، المذكرات من ساحة الباب الأخير، الاقتحام الذي حدث، رجال الدين ومواقفهم (وهم بداخل الساحة وفي قلب المواجهة)، وأخيراً شهداء الباب الأخير. تبرز في العمل الرمزية العالية واستخدام كلمة وفكرة «الباب الأخير» التي توضحها مقدمة الكتاب بلغةٍ عالية: «لماذا الباب الأخير؟ لأنه الرمز الأخير لهذا الوجود الذي انتهكت أبوابه كلها برعونة مستبدّة: باب حريته وباب حقوقه وباب عقيدته. الرمز الديني هو آخر الأبواب التي يقيم –حتى المستبد- لها وزناً ويتجنّب الاصطدام المباشر بها. ظنّ البحرينيون أن السلطات لن تتجرأ على هتك هذا الباب الأخير بما يمثله من رمزية خاصة».
المهارة نفسها في استخدام «قوة الرمز» وسحره من خلال العناوين الفرعية في الكتاب. ففي كل فصلٍ، نجد عناوينَ تشدّ القارئ. مثلاً، نجد «الشهيد محمد كاظم زين الدين: رائحة العطر الأخير» أو «محمود عطية: يوميات الحرّ والبرد والمطر والمداهمات والوفاء والذاكرة الثرية»، «الشهيد محمد الساري: وهل أوثق من سبب بينك وبين الله»، أو «الشهيد محمد العكري: أمسك الباب»، الجملة التي تذكّر بجملة hold the door من مسلسل «صراع العروش» الشهير؛ وهذه المهارة تذكّر بـ«صنعة» تقديم صورةٍ متكاملة، مرئية، بصرية، مكتوبة بحرفةٍ عالية.
إحدى نقاط قوّة الكتاب أيضاً، أنه يسجّل بدقة ما يرويه الشهود لما حدث يومها، فيصبح القارئ، جزءاً من المواجهة. هناك حرفة التصوير العالية للمشهدية: «خلف مبنى جمعية التوعية الإسلامية، يوجد مدخلٌ بسيطٌ محاصر بأسلاك شائكة وحواجز إسمنتية؛ وقبله بأمتار، وُضعت نقطة أمنية، وبعده بأمتار، تمركزت سيارة أمن، فكان الدخول من خلاله مجازفة، على مستوى السلامة الشخصية لأنه قد يتعرض لجروح أو غيرها، وكذلك على مستوى الوضع الأمني، لأنه قد يتعرض للاعتقال».
إذاً هو تصويرٌ متكامل، كما لو أننا أمام شريطٍ سينمائي. هذا النوع من التسجيل قلّما نجده في كتابٍ عربي، إلّا في بعض كتاب تسجيل «الذاكرة الشفهية» للشعوب، وهي قليلةُ للأسف. يروي الكتاب في تلك الفصول ما يمكن اعتباره، واحدةً من التجارب الرئيسية للثورة البحرينية، ويقدّم نوعاً من «القراءة» الخاصة ليس لما حدث فحسب، بل أيضاً لطريقة تفكير وسلوك تلك المعارضة «السلمية» لربما الوحيدة في العالم العربي.
طبعاً واحدة من نقاط الانتقاد الرئيسية للكتاب، أنه ليس موجّهاً إلى القارئ العربي عموماً، بل هو نوع من «حفظ الذاكرة» أو «الحوار» الداخلي بين المعارضين البحارنة أنفسهم. مثلاً ليس في مقدمته أي «شرح تفصيلي» لما حدث في تلك المواجهات. صحيحٌ أن هناك ملحقاً في ختام الكتاب يفصّل تقريباً باليوم أحداث تلك السنة، لكنه يبدو موجهاً إلى جمهورٍ معين مرتبط بمحورٍ معين. إذ تجاهل المواقف «العالمية» واكتفى بجانبٍ وإطار محدديْن (كرجال الدين الشيعة المعروفين، أو مواقف محور المقاومة مما يحدث). ضرورة حضور «الملخص التاريخي» رئيسية، خصوصاً لمن لا يعرف تاريخ البحرين الحديث وما يحدث فيه هذه الأيام خارج رواية السلطة البحرينية الحاكمة، وهم كُثر للغاية. كانت مقدمةٌ أولى تشرح البعد التاريخي، السياسي، والجغرافي لما يحدث لتحلّ هذه المشكلة.
في المحصّلة، هو كتابٌ شديد الأهمية لقارئ يريد أن يعرف ما حدث لـ «إحدى أكثر الثورات سلمية في التاريخ المعاصر».
*نُشر في جريدة الأخبار بتاريخ: 16 نيسان 2021
https://al-akhbar.com/Literature_Arts/304108