الإعلام الغربي ملطّخ بدماء غزة: على «الحرة» المجدُ للفوسفور الأبيض... وbbc شـريكة في الجريمة
على مرّ التاريخ، ومع تطور وسائل الإعلام الكلاسيكية من مطبوعات وتلفزيون قبل ظهور الوسائل الحديثة التي جاءت مع عصر الإنترنت، نجحت هذه الوسائل الجماهيرية في تشكيل الرأي العام عبر إستراتيجيات متنوعة مثل الدعاية والتلاعب بالأخبار وتضليل الجماهير. يوضح اللغوي والناقد الأميركي نعوم تشومسكي أن الدعاية الإعلامية أسهمت في خلق حركات اجتماعية، أو تحجيمها، أو القضاء عليها عبر تبرير الحروب وتحفيز أيديولوجيات معينة وإقناع النفس الجماعية (collective psyche) بأنّ الإعلام هو منتج للواقع. عمل تشومسكي على فضح هذه الممارسات وأعدّ لائحة بعشرة تكتيكات يقوم بها الإعلام بفعالية في سبيل التلاعب بالناس أشهرها استخدام الجانب العاطفي في تغطية الأحداث الهامة بهدف تحييد الحس المنطقي والتحليل العقلاني من قبل المتلقي/ المشاهد، وتعزيز الشعور بالذنب لديه. منهج استخدمته وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها لمعركة «طوفان الأقصى» وظهر جلياً في محاولتها توحيد خطابها، وخصوصاً خلال استضافتها فلسطينيين وعرب داعمين ومدافعين عن القضية الفلسطينية في وجه الإبادة التي يمارسها العدو الصهيوني في قطاع غزة.وعلى الرغم من سعيها الدائم لشد التعاطف مع اليهود والإسرائيليين في كل مناسبة عبر التذكير بالهولوكوست وجرائم النازيين وحكومة هتلر الفاشية التي استخدمت سلطتها ونفوذها ودعايتها الإعلامية للتخلص من اليهود، نجد وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية تسعى جاهدة إلى تبرير فاشية الصهيوني وعنصرية حكومته وجرائم حربه بحق الفلسطينيين والعرب. تستعمل قنوات التلفزة والصحف الغربية أسلوب البروباغاندا كما وصفه هتلر بالضبط في مذكراته، فالدعاية لا تبحث عن الحقيقة الموضوعية ولا تظهر سوى جانب واحد يهدف إلى تحقيق مصلحتها، وعامة الشعب «لا تتكون من ديبلوماسيين أو أساتذة في الفقه العام ولا من مجرد أشخاص قادرين على تكوين حكم منطقي في حالات معينة، بل تتكون من حشد متذبذب من الأطفال البشر الذين يتأرجحون باستمرار بين فكرة وأخرى».
تتّصف وسائل الإعلام الكلاسيكية مثل «بي. بي. سي» بمهنية عالية فتتباهى باحترافيتها الفريدة. أمر يدركه العامة مثلما يفعل الإعلاميّون المتخصصون، لكن مهنية المؤسسة الإعلامية هذه لا تعني حكماً التزامها بأخلاقيات المهنة وقيامها بواجبها الأساس في نقل الأخبار، كما لا يعني بالضرورة التزامها بمعايير ثابتة. فقد بانت ازدواجية المعايير، وتكتيك جعل الآخر يشعر بالذنب عبر الضغط المفاجئ على سبيل المثال مع ضيف القناة، سفير فلسطين في بريطانيا حسام زملط، حين حاولت المذيعة جرّه إلى إدانة معركة «الطوفان»، فجاءت إجاباته ذكية غير مبرّرة بقدر ما كانت تهاجم القناة وتتّهمها بهوسها في إدانة الضحايا.
مع بداية عملية «طوفان الأقصى»، بدا الإعلام البريطاني «صادقاً» أكثر من المعتاد. عنونت صحيفة الـ «تايمز» البريطانية الشهيرة: «إسرائيل تنشر صور أطفالٍ مشوهين»، فيما أظهرت صوراً لأطفالٍ يبدو أنّهم تعرضوا لكارثة كبرى أشبه بالزلزال. ثيابٌ ممزقة، آثار أتربةٍ، دماء ودموعٌ متناثرة على الوجوه، وشيءٌ كبيرٌ من الذهول والصدمة، ناهيك بالصراخ والرعب. تكمل الصحيفة الغربية: «هذه هي أصعب صورة نشرناها على الإطلاق، نحن نرتجف خلال كتابة هذه الكلمات، لقد ترددنا كثيراً في نشر هذه الصورة، ولكننا بحاجة إلى أن يعرف الجميع أن ذلك قد حدث». هنا يظهر للقارئ أن الإعلام الغربي قد حقق هدفاً قاتلاً في مرمى خصومه: عرّى روايتهم الكاذبة، فضح وحشيتهم وكذبهم، وفوق كل هذا أظهر تعاطفه مع الضحايا محافظاً في الوقت عينه على مهنيةٍ حاضرة وبديهة متمكنة. هذا كلّه كان ليمر، لولا أن الصحيفة نفسها كتبت تحت صورة الأطفال بخطٍ صغيرٍ للغاية: الصورة المنشورة هي لأطفالٍ فلسطينيين.
في المعتاد، وفق المتوقع، فإن القارئ سينظر إلى العنوان ثم الصورة أو بالعكس، ولكن قلّما قرأ أو تنبه للكلام المكتوب على الصورة بعد «هول ما رآه وقرأه»، فبدل الغوص في تفصيل الصورة بحد ذاتها ليعرف أسماء الضحايا أو مكان التقاطها، سيهتم أكثر بقراءة المقال. إذاً هي مثل لعبة smoke and mirrors، بحيث يظهر لك الساحر شيئاً فيشغلك به، ثم ينفذ ضربته الكبرى. في الصفحة الثالثة، أكملت الصحيفة المقال، وهنا وضعت صورةً مشكوكاً بأمرها، صنعت بواسطة تقنيات الذكاء الصناعي الحديثة. هنا يتجلى كيف يعمل الإعلام الغربي في التعامل مع القضية والشعب الفلسطينيين منذ بدء أحداث «طوفان الأقصى». وكان عدد من الناشطين الإعلاميين أمثال الأميركي جاكسون هينكل، والمغني لو كي، أشاروا إلى هذه اللعبة الإعلامية التي باتت ظاهرة وبائنة. ولأنَّ الأمر بات أشبه بسباق بين الإعلام الغربي في محاولةٍ لتقديم الصهاينة بأحسن شكل، بدا أن القناة الأشهر بريطانياً والأكثر احترافيةً، وفق ما تشيع عن نفسها، منحازةً بشكلٍ فاضح للصهاينة وعدوانهم. مثلاً بمطالعة صغيرة لصفحة التلفزيون البريطاني على منصة أكس، يمكن ملاحظة طبيعة الأخبار المعنونة، وفحواها: «أنا لا آكل ولا أشرب» يقول زوجٌ لأمٍ حديثة الولادة فقدت بعد هجمات حركة حماس، «الآلاف من الناس قد قتلوا في إسرائيل وغزّة منذ السابع من الشهر الحالي»، «تكريمات كثيرة لمصور وكالة رويترز عصام العبدالله الذي قتل في جنوب لبنان إثر تطوراتٍ هناك»... مشكلة هذه العناوين أنها تظهر بوضح القصّة من طرفٍ واحدٍ فقط: الرواية الصهيونية. لا تخبر «من قتل عصام عبدالله»، ولا تشير في التغريدة/ الخبر إلى أنّ من قتل المصوّر هم الصهاينة عبر قصفهم سيارته من دون سببٍ منطقي، وأن التطورات المحكي عنها، لا شأن للعبدالله بها. الأمر نفسه في قصة الرجل الذي لا يأكل ولا يشرب، إنها قصة فارغة تقوم على الضغط العاطفي على القارئ، فيما تتجاهل أكثر من مليون إنسان يريد كيان الاحتلال رميهم من منازلهم وقتلهم غيلةً. أما العنوان الأكثر فجاجة، فهو مساواة القاتل بالضحية حين يشار «آلاف قتلوا». إنه اللعب على الكلام حتى في عدد الضحايا. وكان الإعلامي الإسكتلندي آلان مكلاود قد شارك فيديو لمحتجين في مدينة غلاسكو، جراء «تحيّز» الشبكة الواضح تجاه ما يحدث؛ وانتشرت صورٌ كذلك من تظاهرة كبيرة في لندن، توجهت صوب مقرّها، ورشّ الشبان الغاضبون جدران مكاتبها الأرضية برذاذ طلاء أحمر في تعبير عن مواقفها «المخزية» كما أشاروا. في المقابل، تمارس القناة البريطانية نوعاً من المراوغة على موقعها بالعربية، الذي يمكن متابعة عناوينه عبر تغريداتها على موقع أكس، إذ يمكن ملاحظة أن الأخبار بالعربية تختلف عن صفحتها الإنكليزية، ويمارس فيها نوعٌ من «التضامن» الخجول للغاية مع ما يحدث بحق الفلسطينيين، مع جملٍ فضفاضة من نوع: حرب غزة: «تركنا منازلنا ولا نعرف إلى أين سنتجه في الجنوب»، أو «كيف تبدو أنفاق حركة حماس السرية تحت قطاع غزة؟»، أو «يشير الإنذار الذي وجهته إسرائيل للفلسطينيين الذين يعيشون في غزة بضرورة الإخلاء للجنوب إلى أن المرحلة التالية من عمليتها العسكرية أصبحت وشيكة». إنه لعبٌ على الكلام، هل كانت «بي. بي. سي» ستنشر «معلوماتٍ سرية» عن أنفاقٍ سرية إسرائيلية إبان الحرب؟ ألم يكن ذلك ليعرّضها لتدمير مصداقيتها أوروبياً وغربياً؟ ماذا عن «تركنا منازلنا ولا نعرف أين سنتجه»؟ يظهر العنوان أن الشعب لا يؤيد حماس ولا المقاومة، وأنه «ضائع» وأن كلا الطرفين متساويان في القضية. أما العنوان الأخير عن الإنذار، فتظهر الإخبارية البريطانية كما لو أنه أمرٌ حكومي روتيني بسيط، كأن تقول الدولة يرجى وضع الأوشحة لأنّ هناك فيروساً منتشراً. التعامل بهذا التهاون والاستسخاف مع خبرٍ ثقيل وموجع بهذا الحجم يظهر مدى الضحالة التي تتعامل بها مع قرائها العرب.
وإذا كنا نتحدّث عن الانحياز الواضح، فإن الإعلام الأميركي كان الأسبق والأكثر تميزاً في هذا الموضوع، إذ إن قناة «الحرّة» مثلاً نشرت تعريفاً لمادة الفوسفور الأبيض، التي يستخدمها جيش العدو الصهيوني في القصف الحالي لمدينة غزّة، واستندت إلى مصادر عدّة خاتمة المقال بصورة عنونتها: «الفوسفور الأبيض غير محظور كسلاح كيماوي». إلى هذا الحد تطوّر الكذب في صنعة الإعلام هذه الأيام. إذ إن الأمر تعدى مرحلة نقاش إيقاف الحرب أو إجرامها، إلى تبرير وحشية إسرائيل بأي ثمن. أما «سكاي نيوز» فهي تمارس نوعاً من التقية الإعلامية، إذ سأل أحد إعلاميّيها رئيس وزراء حكومة العدو السابق نفتالي بينيت: «ماذا عن الأطفال المهددة حياتهم بسبب انقطاع الكهرباء؟» (ويقصد أطفال غزّة بعد قطع الاحتلال الكهرباء عن غزّة)، ليجيبه بينيت: «هل أنت جدّي؟ تسألني عن المدنيين في غزّة؟ ما الذي يجري معك؟» هذه الإجابة، والصمت الذي تلاها، يؤكد أنّ «سكاي نيوز» ليست متعاطفة، بل شريكة أيضاً. في مقابلة عبر الفيديو لمراسلة القناة الأميركية آنا بوتنغ مع الناطق العسكري باسم جيش الاحتلال بيتر ليرنر، تسكت وتستمع فيما هو «يعلّمها» كيف يجب أن تستقي الأخبار، مشيراً إلى أنه يجب «أن نكون حذرين وحريصين للغاية في الحكم قبل أن نرى الحقائق». فلنغيّر المشهد قليلاً: ماذا لو أن الناطق هذا كان باسم «كتائب القسام» أو «سرايا القدس»، هل كانت بوتنغ لتقبل بتلقينه إياها درساً في الإعلام؟ هل كانت لتبقى في وظيفتها في المحطة أصلاً؟
«سكاي نيوز» حاولت ممارسة نوع من «التقية» الإعلامية
ولكي تكتمل الصورة، نشرت «هافنغتون بوست» مقالاً للكاتب أكبر شهيد أحمد، يشير فيه بذهولٍ تام، إلى مذكرةٍ داخلية أصدرتها وزارة الخارجية الأميركية لدبلوماسييها في الخارج، مادةً إياهم بإرشاداتٍ حول «الكلمات والتعابير والجمل» التي يجب أن يستخدموها في حديثهم عن العدوان الحالي على غزّة. وكانت الخارجية الأميركية قد طلبت من سفرائها عدم استخدام التعابير الثلاثة التالية: «وقف إطلاق النار/التقليل من التصعيد» ( de-escalation/ceasefire)، «إنهاء العنف/ سفك الدماء» ( end to violence/bloodshed)، و«حفظ الهدوء» (restoring calm). ويظهر من تحديد التعابير هذا أن الأميركي يريد أن يتجنّب الدبلوماسيون «الحد» من جموح كيان الاحتلال في عدوانه على غزّة وأهلها؛ وهذا الأمر كان الرئيس الأميركي الحالي بايدن قد أكده مراراً وتكراراً عبر دعمه اللامشروط وغير المحدود للاحتلال الصهيوني بدءاً من تبنيه قضية الأطفال الإسرائيليين مقطوعي الرأس التي أثبت كذبها، وصولاً إلى الطائرات المحمّلة بالعتاد والأسلحة الذي يصل تباعاً للكيان العبري.
في الختام، نشر المفكر الأميركي نورمان فينكلشتاين تغريدة عن اقتباس لكلام رئيس الوزراء الأول للعدو ديفيد بن غوريون في عام النكبة يقول فيها: «لم يبقَ لعرب أرض إسرائيل سوى مهمة واحدة وهي الهروب»، ثم أتبعها بأخرى مقارباً بين ما يقوم به «جيش» الاحتلال وخطة القتل التي أتبعتها جحافل المغول «ستقضي إسرائيل على كل ما يتنفس في النصف الشمالي من غزة ثم تعلنها منطقة أمنية إسرائيلية جديدة». إذاً هذا ما تطمح إليه حكومة الاحتلال، والإعلام الغربي يساعد في التستر على جرائمها الحربية والإنسانية ويشبّه مقاتلي المقاومة الفلسطينية بـ «داعش» ليُخيف الجماهير ويستمد الشرعية الشعبية والغربية لارتكاب نكبة جديدة في تاريخ الفلسطينيين.
نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 16-10-2023