لم يحظَ مسلسل بالاهتمام والضجة والتقدير بمقدار مسلسل «صراع العروش» (Game of Thrones ــ عن رواية للكاتب الأميركي جورج. أر. أر مارتن) الذي أنتجه ديفيد بينيوف ودي. بي. وايس لمصلحة شبكة «أتش. بي. أو» الأميركية المعروفة. صُرفت ملايين الدولارات على المسلسل الذي استمر ثمانية مواسم استأثر فيها بأنظار ملايين المشاهدين، وحاصداً ملايين الدولارات من الأرباح في طريقه. وإذا كان ذلك غير كافٍ، يكفي فقط أن نشير إلى أنَّ معظم ممثلي المسلسل الذين لم يكونوا معروفين من قبل، تحوّلوا بين ليلةٍ وضحاها إلى نجوم يشار إليهم بالبنان؛ أمثال إميليا كلارك، لينا هيدي، بيتر دينكليج، نيكولاي كوستر والدو، كيت هارنغتون، صوفي تيرنر وسواهم.
الصراع على «العرش الحديدي» يعود من جديد، وهذه المرّة عبر مسلسل «آل التنين» (House of the Dragon) الذي يروي قصّة «تارغاريان»، آخر عائلةٍ تحكّمت بالتنانين، وتجري أحداثه قبل حوالي مئتي عام من ملحمة «صراع العروش» وأجزائها الثمانية.
إنه عالم ويستروس الشهير، الذي تتصارع عليه العوائل الكبرى المسيطرة على الممالك السبع، وصولاً حتى «أرض الملوك» (kings Landing) التي يحكمها ملك من عائلة تارغاريان، هو «فيسيريس» (بادي كونسيدين)، الذي يوصف بأنّه ملكٌ عادلٌ، محبٌّ ولطيف. ينتظر «فيسيريس» أن يُرزق وريثاً ذكراً من زوجته، إلا أنَّ ذلك لا يحصل، فزوجته الملكة «إيما» (سيان بروك) تموت وهي تحاول إنجاب ابنهما «بايلون». للملك «فيسيريس» فتاةٌ واحدة هي الأميرة «راينيرا» (تلعب دورها ميلي ألكوك كطفلة، وايمي دارسي كبالغة) سرعان ما يعيّنها وريثته الشرعية بديلةً عن شقيقه الأمير «دايمون» (مات سميث) ولي العهد السابق والأمير الشرس والقاسي، على الرغم من معارضة مجلس الممالك السبع. ذلك أنه ليس معتاداً أن تجلس امرأة على «العرش الحديدي». التغيير الكبير في وراثة العرش، كان سببَه خطأ جسيم وقع فيه الأمير «دايمون»، حين أشار إلى أنّ ابن شقيقه «بايلون» الذي توفي أثناء ولادته «وريثٌ ليومٍ واحد» وشرب نخباً لذلك. أمر اعتبره الملك إهانةً كبيرة له.
كلا الأميرين ــ العم والابنة ـــ يستطيعان السيطرة على التنانين ويركبانها بسهولة للمعارك. لذلك هما يسمّيان بـ «فرسان التنين» (dragon raiders)؛ وهذا يمنحهما ميزةً فوق غيرهما من أمراء الممالك الأخرى، وشخصياتها. وكعادة هذا المسلسل وقصته، فهو مليء بكل الصراعات التي تدور في الممالك الحقيقية ومراكز الحكم. إنه الحسد، والبغض، والطمع والرغبة بالحكم والحصول على القوّة التي تجعل الشخص قادراً على القيام بأي شيء بغية الجلوس على «الكرسي» وهنا في هذه الحال «العرش الحديدي». ولمن لا يعرفون هذا العرش، فإنّ مشهده وحده مهيبٌ للغاية، وهذا جزءٌ من قوة هذا العمل: إنه كرسيٌّ من المعدن صُهر من سيوف الأعداء الذين قتلهم الملوك الأوائل. إنه بمثابة عرشٍ من السيوف البارزة، وقد أضاف المسلسل إلى المشهد المهيب ذاك مزيداً من السيوف البارزة، فالعرش الذي جلس عليه لاحقاً الملك «باراثيون» ثم «فيسيريس تارغاريان» لم يكن بهذه التخمة من السيوف. يحكي المسلسل في حلقاته الأولى، الكثير من التفاصيل حول المملكة وكيف نشأت، والعلاقة بين آل تارغاريان والتنانين بشكلٍ عام، وكيف أنهم يسيطرون عليها ويقودونها في معاركهم، إذ تشير مقدمة المسلسل إلى أنَّ آل تارغاريان كانوا في عزّ قوتهم، ذلك أنّهم يمتلكون 8 تنانين ذات قوة هائلة.
كعادة المسلسل، هناك جهدٌ كبيرٌ في تفاصيله: الجو العام شبيه جداً بأوروبا خلال ما سمّي بالعصور المظلمة (dark ages): فقرٌ شديدٌ، لصوصية، مجرمون، وطبقة نبلاءٍ وحكّام لا يعرفون شيئاً عن الشعب ولا يهتمون البتة. يكفي مثلاً رؤية أحد المشاهد الذي يُظهر الأمير دايمون يطبّق «القانون» في الشوارع برفقة حراسه الذين يسمّون «العباءات الذهبية»
(Gold Cloaks) بطريقةٍ أقل ما يقال عنها بأنّها وحشية: يمسك بالسارق وتقطع يده في الحال، ويمسك بالمغتصب وتقطع أعضاؤه في الحال، وهكذا. هذه الطريقة من العقاب كانت منتشرة بالفعل في أوروبا في تلك الأزمة، إذ اشتهر مثلاً الملك فلاد الثالث من «والشيان» في رومانيا بمعاقبة من يعتقد بأنّهم مجرمون بشكلٍ مباشر، وصولاً إلى إجلاسهم على ما يسمّى بالخازوق، مكتسباً اسماً هو «دراغول المخوزق» (Vlad the Impaler). لاحقاً اقتبس عنه الكاتب البريطاني برام ستوكر شخصية مصاص الدماء الشهير «دراكولا». الجو العام في المسلسل، شبيهٌ بجو سلفه «صراع العروش»، مع إضافات تتمثل في العائلات السمراء ذات الأصول الأفريقية والشعر المصفّف على الطريقة الكاميرونية وإن حافظ على لونٍ أبيض. ظهرت شخصية «كورليس فيلاريون» التي أداها الممثل البريطاني من أصول بربادوسية ستيف توسانت، بجدائل رفيعة على الطريقة الكاميرونية.
"تجري أحداث «آل التنين» قبل مئتي عام من «صراع العروش» وأجزائه الثمانية"
أحد أهم المشاهد في المسلسل الذي كان ينتظره عشاق السلسلة كثيراً، هو اللحظة التي دعا فيها الملك «فيسيريس» طفلته «راينيرا» ليخبرها بأنّه يريدها أن تصبح وريثته بديلاً عن عمّها. ميزة هذه اللحظة أنّها تظهر الجمجمة العملاقة للتنين الشهير ــ في الرواية ــ «باليريون» المرعب الذي عرف بـ «الرعب الأسود». وهو التنين الأكبر حجماً وضخامةً ذاك الذي قاده الملك ايغون الفاتح أحد أهم ملوك عائلة تارغاريان والملك الذي أخضع الممالك السبع لحكمه وحكم آل تارغاريان. كانت هذه عادة ملوك تارغاريان لدى اختيارهم خليفتهم: يدخلونهم إلى تلك الحجرة، وأمام «جمجمة» باليريون، يتم النقاش في هذه الفكرة لأهمية باليريون ووجوده وشخصيته ودوره في إرساء حكم آل تارغاريان، فهم في النهاية يوصفون بأنّهم «آل التنين». أحد المشاهد المرتقبة أيضاً، كان حين يخبر الملك فيسيريس ابنته بأنّ الملك «إيغون» قد شاهد نبوءة تقول بأنّ «عالم الرجال» سيواجه خطراً عظيماً يأتي من الشمال مع شتاءٍ لا ينتهي، في إشارة واضحة إلى قصّة «صراع العروش» لاحقاً. هذان المشهدان يثبتان أن المسلسل ليس موجهاً مئة بالمئة إلى مشاهدين جدد للسلسلة بمقدار اهتمامه بالمشاهدين «المخلصين» للسلسلة ككل: إذ لا يعرف كثيرون الإشارات الكثيرة والإيحاءات التي تمر في المسلسل، في إحالة إلى أحداث ستحصل لاحقاً شاهدوها ضمن «صراع العروش». كذلك، شاهد عشاق المسلسل الجملة الشهيرة «دراكاريس» التي تعني «أحرق» أو «نار» التي استخدمتها الملكة «ديناريس تارغاريان» الشهيرة بـ «أم التنانين» كثيراً في «صراع العروش»، ولكن هذه المرّة استخدمتها الأميرة «راينيرا» لتطلب من تنينها «سايراكس» إحراق جثمان والدتها الملكة إيما وشقيقها «بايلون» الذي توفي خلال الولادة.
يعد المسلسل بالكثير، لا لعشّاق السلسلة فحسب. فالعمل الذي أعلنت HBO أنّ حلقته الأولى اجتذبت قرابة عشرة ملايين مشاهدة على شاشة التلفزيون وخدمة البث التدفّقي HBO Max، ما جعله أكبر جمهور لأي مسلسل من الأعمال الأصلية الجديدة في تاريخ الشركة، يقدّم قصةً ذات حبكة شديدة التعقيد، غير معتادة، مليئة بالتفاصيل والحكايات. في كل زاوية، هناك قصة جديدة، كل شخصية مرسومة بعمق شديد، تجعلها مليئة بالخير كما بالشر، لديها طموحاتها وأحلامها وكذلك عيوبها.
*House of the Dragon: كلّ أحد على HBO وHBO Max
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 26 آب 2022
https://al-akhbar.com/Media_Tv/343808