يمكن اعتبار المسلسل الكويتي «دفعة القاهرة» (2019) الذي تعرضه منصّة نتفليكس حالياً، أحد أهم المسلسلات الكويتية والعربية التي يمكن متابعتها. هو ليس موجّهاً للجمهور الكويتي فحسب، بل يقارب الجمهور العربي على نطاقٍ واسع. كما يستطيع المشاهد بسهولة أن يستمتع بتعلّمه اللهجة الكويتية كلهجةٍ محبّبة وجديدة-قديمة في الدراما العربية. يأتي المسلسل من تأليف الكاتبة الكويتية هبة مشاري حمادة، التي عرفها الجمهور العربي عبر مسلسل «سرايا عابدين» بجزءيه (2014-2015)؛ فيما أخرجه البحريني علي العلي، الذي يعود هذا العام مع مسلسل «العنبر 6». يشترك في بطولة العمل عددٌ من الممثّلين الخليجيّين والعرب الذين يقدمون أداءً خالياً ــ إلى حدٍّ كبير ــ من التمثيل الإصطناعي والـover-acting؛ فيجمع المسلسل من الكويت: بشار الشطّي، فاطمة الصفي، لولوَة الملا، حمد أشكناني، مرام البلوشي، ومحمد خليل؛ من مصر: نور الغندور ورانيا منصور، من البحرين: نور الشيخ وخالد الشاعر، ومن السعودية: مهند الحمدي، وسواهم.
ليس غريباً أن يفكّر صنّاع العمل في البداية بتسميته «من الزمن الجميل» خلال تصوير المسلسل، فالكاتبة تميل إلى الهروب من الزمن الحالي والجغرافيا الضيّقة، وحدود المنزل التي حاصرت الأعمال الدرامية الخليجية «حدّ الشبع»، حسب قولها في مقابلة لها على قناة mbc. وجدت حمادة في فترة الخمسينيات من القرن الماضي فرصة لاحتضان عملٍ يشبه أفلام «الأبيض والأسود» القديمة، لكن بحكاية ملوّنة هذه المرة. ومع أنّ القصة تدور حول مجموعة من الشابات والشبان الذين يغادرون الكويت إلى مصر للدراسة الجامعية، لكنّها ليست مجرّد حكاية دراسة فحسب، بل تتداخل أحداث مصر -والوطن العربي- السياسيّة والاجتماعية في أحداث المسلسل. فعلى اثر تأميم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس عام 1956، يجد أبطال القصّة أنفسهم منخرطين في مقاومة العدوان الثلاثي، ونسمع يوسف الذي يؤدي دوره بشّار الشطي، يقول: «أهل بور سعيد حملوا مصر على كتافهم، مش هي اللي كانت شايلاهم». كما يتعرّض عدنان (خالد الشاعر) للملاحقة لانضمامه للشيوعيّين؛ ونشاهد مظاهرات الطلبة الذي يهتف في مقدمتها فهد (حمد أشكناني) بعد منعه عن المشاركة في القتال كونه ضريراً، ونرى القصف الصهيوني للعاصمة المصرية وسواها.
ينجح النص في إظهار أجواء تلك الفترة الزمنيّة من خلال العلاقة بين الناس، بين التلامذة وأساتذتهم الجامعيين، بين العائلات وطبقات المجتمع المختلفة، وبالتأكيد العلاقات الإنسانية المعقدة كالحب والزواج والانجاب والخلافات وحتى الهجران والطلاق. دلال (فاطمة الصفي) التي تجمعها علاقة حبٍ قوية بيوسف، تُرغم على الزواج من غيره لكنّها سرعان ما تنفصل عن زوجها للّحاق بدفعة القاهرة، إثر تلقيها دعوة من دائرة المعارف والثقافة والتعليم لإكمال تعليمها هناك. كان يوسف آنذاك قد ارتبط –دون حب- بلطيفة (مرام البلوشي)، فتاة كويتية أتت معه وانضمت للدفعة ذاتها. إنّها زوجةٌ «مثالية-صالحة» كما في معايير ذلك الزمان: مطيعة، لطيفة، تجيد الطبخ، ولا ترفض لزوجها كلمة. تصرّ دلال على ضخ الدماء في علاقتها بيوسف، مهما كان الثمن. أمّا فهد، الطالب الضرير القادم من أسرة غنيّة، فيقع في غرام زميلته نَزهة (لولوة الملا) ابنة عائلةٍ فقيرةٍ مُعدمة، فتظهر للمشاهد الفوارق الإجتماعية التي تفرّق بينهما، كما تميّز بين طبقات المجتمع في كويت الخمسينيات. تؤدي نور الغندور دور الشقيقتين التوأم (سبيكة وإقبال) المتطابقتين في الشكل فقط، بينما تختلف شخصيتهما كثيراً: إقبال أقرب إلى البنت السطحية، فيما سبيكة تلميذة مجتهدة تعمل على كتابة روايتها.
يقرّر عدنان ذو الملامح الأرستقراطية، أن يصبح شيوعياً، وتقوده الظروف إلى الزواج من الفتاة التي تعجبه، وتزامله في الدراسة لولوة (نور خالد الشيخ). بدوره، يقع ناصر (مهند الحمدي) في غرام ممثلة مصرية معروفة تدعى ناديا (رانيا منصور). كل هذه القصص المسبوكة بعناية تجري في إطارٍ من التوازي مع بعضها البعض فيما يسكن الأبطال متجاورين في شققهم.
في زمنٍ يعاني بوضوح من «أزمة نصّ» في الدراما العربية، يمكن اعتبار ما كتبته هبة حمادة نصاً مسبوكاً بعناية بالغة، إذ إنّ الشخصيات -بتفاصيلها الخاصّة- كانت مرسومة بدقة، كما لو أنّها حقيقية. ويُشهد للنّص نجاحه في ضبط نبض سلوكيات وتصرّفات الشخصيات، فلا يشعر المشاهد باختلاف غير منطقي -أو مفاجئ- في ردة أفعالهم وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم. فشخصية فهد على سبيل المثال، قدّمتها الكاتبة بتصويرٍ جيّد يختلف كثيراً عن «كليشيه الضرير» الذي اعتادت الدراما العربية على تقديمه، فهو كأيّ شخص «عادي»: يخطئ في بعض الأحيان، يحب، يكره، ويتصرّف بقلّة أخلاقٍ عند الغضب. كما رسمت شخصية الشقيقتين التوأمين باختلافٍ دفع نور الغندور إلى تأدية الدورين بطريقة متمايزة؛ فلم تعان الممثلة المصرية المقيمة في الكويت كثيراً أثناء الأداء. أمر جعل التمييز بين الشقيقتين سهلاً وممكناً. بالإضافة إلى ما سبق، نلاحظ أنّ دمج الأحداث التاريخية مع تطوّرات قصة المسلسل بدا واقعياً أيضاً، كما استعمال الكاميو (cameo) أو ما يسمى في مدرسة الكتابة الإبداعية: «التسليع من النوع الرابع»، حيث استخدمت شخصيات مشهورة كأم كلثوم وعبدالحليم حافظ في تفاصيل المسلسل، وجعلت أبطال العمل يقابلونها ويتفاعلون معها. واعتمدت الكاتبة في نصّها على تقنيّتين متقدّمتين في الكتابة الإبداعية: تقنية الـthread بحيث تبدأ القصة بفعلٍ أو كلام ما، يعود للظهور مجدّداً بعد تطور الأحداث ومرور الوقت. نرى ذلك بوضوح في تعارف فهد ونزهة، ولولوة وعدنان، وفي لقاء لطيفة بزملاء زوجها يوسف في الحلقة الثالثة، الحدث الذي عاد للظهور في الحلقات الأخيرة.
أما التقنية الثانية فهي «تعاكس المنظور» بحيث تبدو في المشهد نفسه ردتا فعلٍ مختلفتان/متناقضتان تجاه حدثٍ واحد، وقد ظهرت أكثر من مرة في العمل، مثلاً المشهد الذي يخبر فيه يوسف زوجته لطيفة بأنّ زميله سامي تقدّم لخطبة دلال (حبيبته السابقة)، نرى يوسف يخرج من المنزل مغلقاً الباب وراءه، فترفع لطيفة يديها عالياً وتقول: «يا رب توافق» وتكررها أربع مرّات، في المقابل، نجد يوسف وراء الباب رافعاً يديه داعياً: «يا رب ما توافق» ويكررها أربع مراتٍ أيضاً.
إخراجياً؛ يمكن القول إنّ عمل المخرج علي العلي كان متقناً، فقد راعى مهارات أبطاله، فضلاً عن اهتمامه بأدق تفاصيل ديكور تلك المرحلة وأجوائها، فشاهدنا وسائل النقل فيها، وثياب تلك الفترة الزمنية، أدواتها الإلكترونية، تقنياتها، ملامحها، صالات السينما، المسرح، وسواها. كذلك يمكن الإشارة إلى الإهتمام بزاوية الكاميرا في كثيرٍ من الأحيان، والانتقال في المشهد الواحد بين الملوّن والأبيض والأسود الذي يحمل سيميائياً دلالات أبعد من كليشيه الماضي/ الذكريات والحاضر الملون.
على الهامش:
غابت الدراما الكويتية كثيراً عن الساحة العربية بعدما كانت تعد من بين أمهات الدراما الخليجية والعربية. إذ شكلت مسلسلات مثل «خالتي قماشة» (1983) و«على الدنيا السلام» (1987) وكانت نجمتا تلك المرحلة سعاد العبدالله وحياة الفهد، إضافةً إلى غانم الصالح، مريم الغضبان، علي المفيدي، داوود حسين نجوماً لا خليجيين فحسب، بل عرباً يشار إليهم بالبنان. ولا يمكن نسيان دور المخرج المصري حمدي فريد في رفد الدراما الكويتية بخبرته ومهارته، وهو الذي لا يعتبر غريباً عن الخليج، كونه عاش هناك وكان من المؤسسين لتلفزيون الكويت الرسمي، والدراما الكويتية عموماً.
غابت الدراما الكويتية سنوات طويلة وإن كانت تطل بعض الأعمال بين الفينة والأخرى لتحاول مقاربة الجمهور الكويتي أولاً، والخليجي ثانياً، متناسيةً أو متجاهلة بعض الشيء الجمهور العربي ككل، فكانت معظم الأعمال لا تقارب «القضايا العربية المشتركة». ولا ريب أن تجربة مسلسل «ساق البامبو» (2016) عن قصة الكاتب الفائز بالبوكر (عن ذات الرواية) سعود السنعوسي (وكتب سيناريو المسلسل المعالج كذلك)، وبطولة سعاد العبدالله، شجون الهاجري، مرام البلوشي، ووانهو تشونج. تجربة يمكن الحديث عنها في سياق محاولات الدراما الكويتية العودة إلى الواجهة التي خسرتها أمام نظيراتها الخليجيات وتحديداً السعودية. أفادت الدراما السعودية من طفرة التلفزيونات السعودية، فانطلقت المسلسلات الكوميدية مثل «طاش ما طاش» بأجزائه الكثيرة، وجاءت على أشكاله كثيرٌ من الأعمال، وإن اختلفت عن مسلسلات الكويت كونها قاربت المجتمع السعودي، أو في أحسن الأحوال الخليجية الضيّقة، من دون أن تحاول ولو الشيء القليل مخاطبة الشارع العربي عموماً. هنا لا نتحدّث عن اللكنة أو أداء الممثلين بل حول طبيعة النص، القضايا المطروحة، لغة الخطاب، وبالتأكيد نوعية الكوميديا في هذه الأعمال.
* مسلسل «دفعة القاهرة» على نتفليكس
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 28 كانون الأول 2021
https://al-akhbar.com/Media_Tv/326909