«الديمقراطية» الفرنسية تنكّل بالمناضلة مريم أبو دقة
بقرار خاص صادر عن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين، اعتُقلت المناضلة الفلسطينية وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية مريم أبو دقة (1953) تمهيداً لترحيلها من البلد. كانت الغزّاوية ابنة بلدة عبسان في خان يونس، قد قدمت إلى فرنسا بتأشيرة دخول لمدة خمسين يوماً للمشاركة في مؤتمرات وندوات حول «النزاع» الإسرائيلي الفلسطيني، كونها ناشطة حقوقية ونسوية لما لها من جهود في تمكين المرأة الفلسطينية. لم يكن هذا القرار المجحف جديداً على المناضلة الفلسطينية، فهي في الأصل أسيرة محررة، اعتُقلت في سجون العدو الصهيوني مراراً إلى أن حكم الاحتلال عليها بالنفي عام 1970، فبقيت تتنقل بين بلدان العالم لمدة ثلاثين عاماً إلى أن قضت مدة نفيها واستطاعت العودة إلى فلسطين عام 1996.وضعت وزارة الداخلية الفرنسية أبو دقة قيد الإقامة الجبرية في مرسيليا جنوب فرنسا قبل انطلاقها إلى مدينة تولوز بسبب «تهديد تمثله للنظام العام في سياق توترات شديدة مرتبطة بالحرب بين إسرائيل وحماس». جاء هذا القرار وفقاً لصدور أمر بطردها «يتعذّر تنفيذه فوراً»، كما أعلنت منظمة «أورو باليستين» الفرنسية غير الحكومية. بذلك القرار، تُخيف فرنسا أبو دقة التي استُشهد عدد كبير من أفراد عائلتها في غزة هذين اليومين، وكل من يحاول التعبير عن رأيه وموقفه من القضية الفلسطينية، وتتهمه بالإرهاب وتأييده. لكنها «بلد الحريات» لا ترى في قمعها للكلمة والتظاهرة على حساب دعمها لكيان الاحتلال الصهيوني، أي تشجيع على الإرهاب والقتل والإبادة. التظاهرة المؤيدة للفلسطينيين ممنوعة، والكلمة المحقة ممنوعة، لكن إضاءة برج إيفل الشهير بعلم الاحتلال أمر حضاري تمارس فيه فرنسا حريتها وحرية جزء من الأوروبيين البيض في التعبير عن الرأي والمواقف السياسية. يبدو أننا أمام تناقضات في فكرتين: الأولى فرنسا بلد الحريات، والثانية في مكيالَي القياس اللذين تعتمدهما فرنسا في تحديد مفهوم الحرية وموضع ممارستها.
في علم اللغة، هناك لازمات لغوية تأتي على لسان الناس وفي محكيّاتهم اليومية تجعلهم يستعملون تعابير معلّبة جاهزة للاستهلاك وفقاً لترتيب معين مثل القول: العدو الغاشم، الشيطان الأكبر. كذلك الأمر حين يذكر اسم فرنسا فتلزمه عبارة «بلد الحريات». لازمة تنجح في جعل «لا وعي» المستمع يربط هذه الكلمات بالفكرة لتصبح مؤكدة في وعيه وذهنه إلى الحد الذي تسأله في أي وقت عن الحرية في بلاد العالم، فيجيب بسرعة من دون تفكير: فرنسا، بلد الحريات. في الفلسفة اليونانية، تُعدّ الحرية أساس وجود المدينة الفاضلة بالنسبة إلى أفلاطون، إذ لا يقوم مجتمع مثالي إلّا بشرط تعزيز مبدأ الحرية للبشر سكان هذا المجتمع. لكن أفلاطون نفسه لم يكن عادلاً في طرحه مفهوم الحرية، إذ رأى أن الطبقة الحاكمة هي الأقدر على التفكير واتخاذ القرارات، فهي الوحيدة التي يحق لها التمتع بالحرية السياسية والتعبير الإيديولوجي. تعامل تلميذ سقراط مع الطبقة الدنيا بأنها لا تستطيع التفكير واتخاذ القرارات والمواقف السياسية، بعكس أستاذه الذي ربط بين الحرية والفضيلة، ووضّح بأن ممارسة الإنسان للفضائل هي دليلٌ على حريته، أما نزوحه للرذائل فدليلٌ على فقدانه الحرية، لأنه يصبح بذلك عبداً لهذه الأفعال المشينة. يحقّ للإنسان اكتساب حريته (أو انتزاعها)، فما من شخصٍ في هذا العالم يملك «الحق» في حرمان الآخر من حريته.
لكن على ما يبدو أن الغرب لا ينفك يكيل بمكيالين مختلفين في مفهوم الحرية وممارستها. يحق لبلاد الحريات أن تعزّز حرية التعرّي وحرية إشهار المثلية وغيرهما من المواضيع التي تعدّها الحكومة الفرنسية خير تطبيق لحرية الأفراد والمجموعات، لكن إبداء الرأي والتعبير عن المواقف السياسية والانتماءات الدينية ليست ضمن مفهوم الحرية لدى فرنسا، فتتصرف بعنصرية مباشرة مع المسلمين على أراضيها، تحاول منعهم تارة من لبس الحجاب في المدارس الفرنسية، وطوراً تضيّق عليهم الحياة كما تفعل مع اللاجئين «غير البيض». تعطي فرنسا لنفسها الحق في قمع المتظاهرين دعماً للقضية الفلسطينية، ولا تستحي من حظر التظاهرات في الشارع العام بفرضها غرامات مالية باهظة تُخيف بها الأوروبيين والعرب من التعبير عن رأيهم. إذاً هي فرنسا ترى الحرية في فرض ما تريده الطبقة الحاكمة، وفقاً لرأي أفلاطون، فهذه الطبقة تمتلك القدرة على التفكير والتحليل واتخاذ القرارات الصحيحة، بينما عامة الناس باختلافات انتماءاتهم ومعتقداتهم وأشغالهم، ليسوا قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة.
تخيف الحكومة الفرنسية المؤيدين للقضية الفلسطينية وتصفهم بـ«داعمين للإرهاب» وترهبهم في نزع «إنسانيّتها» عنهم، فيتجلى بوضوح هنا مفهوم الحرية لدى سقراط حتى نستلخص عقلانياً أنّ فرنسا تخلط بين الحرية والعبودية وبين الفضيلة والرذيلة، فهي في ادّعائها للحرية التي تحتكرها الطبقة الحاكمة تمارس الرذائل عبر دعمها غير المشروط للصهيونية وتشريعها لجرائم الحرب وإبادة الفلسطينيين. لكنها في المقابل تنتزع الحرية الحقيقية من الشعب الذي اختار بمحض إرادته من دون ترهيب أو ضغط أن يتظاهر ويندّد ويشارك رأيه السياسي والإيديولوجي والإنساني أولاً، في وقف المحرقة التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في غزة منذ انطلاق معركة «طوفان الأقصى».
نُشر في جريدة الأخبار اللبنانية 19-10-2023