لأكثر من عقدين، غرقت الدراما الخليجية بقصص مكرّرة، فقيرة المضمون، رتيبة الحبكة، تدور غالبيتها حول عائلات ثرية ذات مشكلات سطحية، متجاهلة قضايا المجتمع الحقيقية؛ فضلاً عن توجّهها ـــ خصوصاً تلك الكوميدية كـ «طاش ما طاش» ـــ إلى الجمهور الخليجي دون سواه. ولطالما كانت الدراما الكويتية، بصيص الأمل منذ ثمانينيات القرن الماضي مع مسلسلات مهمة مثل «خالتي قماشة» (1983، إخراج حمدي فريد كتابة طارق عثمان وبطولة حياة الفهد وسعاد عبدالله). اليوم تعود الدراما الكويتية الجديدة في محاولة جادة لنفض الغبار عن صناعتها الجميلة هذه؛ خصوصاً مع أعمال مثل «دفعة القاهرة» (2019) و«دفعة بيروت» (2020) للكاتبة هبة مشاري حمادة والمخرج علي العلي، و«جنة هلي» (2020) و«نوايا» (2016) للكاتبة نوف المضف والمخرج منير الزعبي. هذا العام، يأتي المسلسل الكويتي «ناطحة سحاب» (تأليف نوف المضف، إخراج عيسى ذياب، وإنتاج «شركة التوليب») ليقدم صورة مختلفة بقصتها الرئيسية، وإن كانت لا تخلو من أحداث جانبية معتادة كالخيانة الزوجية وغيرة الأخوة وحب المظاهر والمال.
تدور قصة المسلسل حول رائدة الأعمال «عامرة» (سعاد عبدالله) التي ترأس شركتها الخاصة؛ معتمدةً على ذراعها الأيمن عبدالرحمن (يعقوب عبدالله) الذي نراه في الحلقات الأولى بدور «منّان»؛ الموظف الهندي الذي يتكلم العربية المكسرة. تتميز عامرة بجديّتها وبحثها المتواصل عن فرصة استثمار في أي شيء أو شخص ترى فيه موهبة. أمر يدفعها لتبني موهبة «رافد» (حسين المهدي) ليصبح بطل رالي سيارات. رافد هو شاب «نكرة» كما يصف نفسه بطريقة ساخرة في الحلقة الأولى، يأتي من عائلة فقيرة وليس لديه عمل ثابت. على الصعيد الشخصي، تسكن «عامرة» وحدها وليس لديها أبناء. هذا التفصيل يعود للظهور مراراً في الحلقات، ليبرز للمشاهد غريزة أمومة «عامرة» التي تدفعها لتتبنّى مواهب، وتكون بمثابة أم للموظفين وخالة طيبة ومتفهمة لابنتَي شقيقتيها: سمر (شيماء علي) وراوية (نور). هذه الشخصية التي تؤديها سعاد عبدالله بحرفة عالية، تذكرنا لناحية هدوئها ونظرتها الحكيمة ونضجها في التعامل مع الجيل الشاب، بشخصية «العمة نور» التي أدتها الممثلة المصرية نبيلة عبيد عام 2003 في المسلسل الذي حمل الاسم نفسه (كتابة محمود أبو زيد وإخراج عادل الأعصر).
يشهد للنص الذي ألّفته الكاتبة الكويتية نوف المضف خفّته ومرونته، ما يجعله عملاً يستمتع به الجمهور العربي وليس الخليجي فقط. هناك حرفة في رسم شخصيتَي «عامرة» و«رافد» وضبط سلوكيات وردّة فعل كل منهما. تحافظ «عامرة» على شكلها ونمط ثيابها وتعليقاتها التي تتأرجح بين القسوة والسخرية. على سبيل المثال، حين تلتقي «عامرة» بـ «رافد» مصادفة في الشارع، تعلّق على اسمه وتصرفاته بقولها: «الاسم راقي، والتصرف والأخلاق حظيرة». ونجد الأسلوب نفسه في توجيه الملاحظات لمساعدها «منّان» عند تقصيره في عمله ولأختها «سمر» التي تأتي بالمشكلات دوماً بسبب سذاجتها وتعلّقها بالمظاهر. أمّا «رافد» فهو متهوّر ولغته تشي بالبيئة القادم منها. حين تطلعه «عامرة» على فكرتها في تحويله إلى بطل رالي مشهور، يجيب باستهزاء: «ليش تحسّسيني كنك من هاذول المذيعات اللي يطلعون بالقنوات التجارية.. ولا الدعايات اللي تسأل: نفسك تبقى نجم؟ نفسك تبقى مطرب؟ يبقى بس تبعت ثلاث تمانينات على المسج، وفي الخلفية يطلع عمرو دياب وحكايتك إيه يللي». تحاول الكاتبة الإشارة إلى بعض القضايا التاريخية والمجتمعية من خلال القصص الجانبية مثل تسميتها لشخصية ابن «راوية»، شقيقة «عامرة»، باسم جورج بوش.
يعلّق الأب «طارق» (عبدالعزيز صفر) حين يسأله شخص في المطار مستغرباً الاسم أنّه أسماه كذلك «يوم الضربة الجوية» على اسم الرئيس الأميركي جورج بوش «اللي حرّركم»؛ إشارة إلى احتلال العراق للكويت وتدخّل أميركا. في الوقت نفسه، تسعى كاتبة العمل إلى ترسيخ دور المرأة الخليجية العاملة والفاعلة والمتحررة –ضمن إطار العادات والتقاليد المحافظة- من خلال التركيز على نجاح «عامرة» في عملها وترقية وسفر «غزلان» (هدى حمدان)، مقابل محاربة المرأة التي تعتمد كلياً على راتب عمل زوجها، وتنفق المال تفاخراً بمظهرها وبعدد خادماتها. ليست المرة الأولى التي تتعاون فيها الكاتبة نوف المضف مع الممثلة القديرة سعاد عبدالله. فقد اجتمعتا في أعمال سابقة مثل «جنة هلي» و«نوايا».
أدائياً، يمكن اعتبار ما قدمته سعاد عبدالله نقطة ثقل المسلسل، فهي تمثل بأريحية ظاهرة في مقابل القليل من الـoveracting من قِبل حسين المهدي، وإن كان أداؤه جيّداً وعفوياً في مشاهد كثيرة. الممثلة الإيرانية الكويتية شيماء علي اعتمدت كثيراً على مظهرها الخارجي في تأدية دور الأخت الجميلة العاطلة عن العمل التي تحب الموضة وإنفاق المال في شراء الثياب والمكياج، وتقارن نفسها بأي امرأة يبدو عليها الثراء/ النجاح وأولهنّ أختها «عامرة». أمّا الممثلة العراقية نور، فكانت هادئة في تأديتها شخصية الأخت المنصفة، والزوجة المتحررة، والأم المتفهّمة لابنها الوحيد جورج (طلال باسم)، الذي يحتاج مرونةً أكثر في أدائه.
سيكون عشاق الراليات وسباقات السرعة، مع مفاجأة جميلة حين يظهر بطل الراليات الكويتي مشاري الظفيري، بطل الشرق الأوسط للرالي، والحائز المركز الثالث في بطولة العالم 2021، ضمن الحلقة الثالثة من المسلسل، حين تستدعيه «عامرة» لتدريب رافد على سباقات الرالي، فيستغل الفرصة ليذكر والده أحمد ظفيري الملقب بـ «ثعلب صحاري الكويت»، وأحد مؤسسي رالي الكويت. كما يشير إلى أنّ الكويت أول دولة خليجية وثاني دولة عربية تنظم سباق رالي.
إخراجياً، حاول الممثل الكويتي عيسى جاسم ذياب، الذي أخرج العام الفائت، مسلسل «شليوي ناش»، المزج بين الكوميديا والتشويق في تقديم القصة. إلا أنّ مشاهد عديدة بانَت مصنوعة على طريقة الدراما التركية؛ بطيئة بشكل ملحوظ عند خاتمتها ومباشرة جداً في تصوير اللقطات التي تستدعي انتباه المشاهد لأمر هام.
«ناطحة سحاب» عمل كويتي يشترك في أدائه ممثلون من جنسيات متعددة، لكن بلسان/ لهجة كويتية، يعتبر وجبة خفيفة ومسلية من مسلسلات رمضان هذا العام، يستطيع المشاهد العربي متابعته بسهولة.
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بِتاريخ 21 نيسان 2022
الدراما الكويتية تنصُر المرأة الحرّة (al-akhbar.com)