في مسرحية "تامبورلاين العظيم"(1590) للمسرحي البريطاني كريستوفر مارلو(1564-1593)، يتحدّث بطل المسرحية المأخوذ عن شخصية "تيمورلنك" المغولي لإحدى مربياته: "من الواجب يا أماه أن نقتل، ومن الواجب يا أماه أن يموتوا". لتسأله بشكل مباشر وهي تحيك شيئاً في يديها: "لكن ألن يكون لهم رأي". فيجيبها بذات الاندفاع: "هذا هو دورهم في هذه الدائرة يا أمّاه".
قانون شو يما؟
قالها عابد وهو يحرّك يده بغضب، وصوته يتأرجح بين السخط والانفعال. "هدول ما بنفرق معهن؛ احنا كفلسطينية ما إلنا حدا".
عدّلت أم سليم جلستها، ونظرت صوب ابنها ذو الأربع والأربعين عاماً، مرتدياً فانيلةً بيضاء في جو بيروت الخانق.
يما هدول قتلوا أبوي وإخوتي وجدّي ونايلة ووائل وقطعوهن، يما قطعوهن. وبيطلع هادا السفيه الشاعر هادا ابو شعر زي انشتاين يقلهن برافو عيلي عملوه ولادنا.
نطق الجملة الأخيرة مفخّماً صوته، مقلّداً الشاعر سعيد عقل متقصداً أن يحرك يديه على طريقة الشاعر اللبناني اليمني الذي تبنّى ما فعله القتلة الذي نفذوا مجزرة صبرا وشاتيلا في العام 1982.
يما بتضلك تقوليلي العدل والانصاف. يما لأ ما في عدل ولا انصاف. يما شوفي فاتوا على المخيم، قتلوا الناس كلهن. دبحوهن يما. دبحوهن.
بدا عابد صارخاً أكثر من اللازم. حاولت أم سليم تهدئته؛ لكنه لم يتوقّف.
يما ما بدي أسكت. لما تقوليلي عدل وإنصاف، هادا مين بيعمله؟ مين اللي بده يعمله؟ الأوروبي وجمعياته؟ ولا لبنان؟ ما هو إذا نص اللبنانية بيقولوا إنه اللي صار صار، ومسامحين وخلص لفلفوا هالقضية وتسكرت. محكمة؟ ومحاكمة؟ وينهن. يما المسكين والفقير اللي متلنا ما إله حق ولا حقوق.
عموماً يتسم القتل الثأري بأنه قتل عن قرب، بحيث تتماس أجساد القتلة والمقتولين، ربما لأن هذا القتل ممتزج هنا بالكره الذي ينتقل بالقرب أو التماس. ثم لأن التمتع بمعاناة الضحايا تقتضي القرب.
(من نص لياسين الحج صالح عن المجازر)
***
لم يكن القاتل على عجلةٍ من أمره، فما ظهر على جثث الضحايا الفلسطينيين يبين أن السكاكين والهراوات والأسلحة البدائية استخدمت في المجزرة. وكان أفراد الميليشيات اللبنانية يدخلون المنازل منزلاً تلو الآخر. ويبحثون عن النساء، ليبقروا بطون الحوامل منهن، ويغتصبوا الفتيات. وكانوا يقيدون أيادي الرجال خلف ظهورهم بحبال، ثم يذبحونهم بالسيوف، لقطع أعناقهم وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، أو طعنهم بالسكاكين والحراب، أو إطلاق النار عليهم، تسليةً وإضاعةً للوقت. وكانوا يقتلون الصغار خشية أن يصبحوا "مخربين" حين يكبرون.
(من نص لمالك ونوس مؤرخاً مجزرة صبرا وشاتيلا)
***
يما شوفي امشي معي: يما فاتوا على المخيم. قتلونا، قطعونا. قالوا إنه احنا المشكلة. طيب وبعدين طلعنا مش المشكلة. إنه احنا قتلنا بشير الجميل. طيب هيك يعني. هي تهمة وانرمت. طيب اجت لجنة استقصاء دولية؟ محلية؟ لبنانية؟ لأ خلص اتسكر الموضوع. وبتيجي بتقوليلي رح يعطونا حقنا؟ حق شو؟
عابد، حاول استدراك ما يقوله. كان يصاب بهذه اللوثة الكلامية حال اقتراب الذكرى.
يما شوفي. أنا مش زعلان من انه في لبنانية طبلوا على اللي صار. أنا زعلان من الباقيين. والله زعلان من قلبي. طيب يا أخي ما انت احسبها بالعقل: في حدا فات على بيتك. مش قتلك وبس. لأ ما بيكفي القتل. هو شنّع عليك. قطعك وعمل صلبان على جسمك. واغتصب أهلك وعمل اللي ما بينعمل. وعادي مرقت الخبرية تحت شو إنه ما انتوا قتلتونا مش عارف وين. يا عمي طيب اذا صار هيك هادا بيبرر؟ يعني ستة وستة مكرر؟
أم سليم تريد ان تذهب إلى المطبخ، لكن كلام ولدها الوحيد المتبقي حياً يحفر عميقاً في الذاكرة. هي لا تريد هذه الذاكرة، هي ترى أن العدل والإنصاف سلاحها الوحيد الذي حملته منذ علٌّقت على الحائط صورة ضحايا المجزرة الأوائل.
***
حصلت المجزرة وكنت في شاتيلا. دخلت على ابن عمه لأبي "علي زيدان"، كنت ألعب شدّة واياه قبل يوم واحد تحت الدرج من قصف الطيران، وجدت رأسه منفصل عن جسده، لمّا رأيت هذا المنظر لم يبقَ في رأسي عقل! ولا إعلام ولا شيء. كانت لطفية صاحبتي تغلق فم ابنها حتى لا يتنفس، حتى لا يعرف أحد أن هناك أناس في الداخل، لمّا يعلموا بوجود بيت فيه ناس يخلعون الباب ويدخلون ويذبحونهم من في الداخل! رأيت حوالي سبع جثث فوق بعضهم غالبيتهم نساء، هؤلاء بيت "المقداد" كلهم نساء، لأني أنا التي هرّبتني من شاتيلا واحدة من بيت "المقداد"، حمّلتني ولد صغير وقالت لي: قولي هذا ابني. هرّبتني وقت المجزرة، نعم. بالليل أكثر يجزرون.
(من شهادة عزبا حسين خضرا على المجزرة)
***
يما، أنا والله ما بدي منهن يعطوني حقي. أصلا كيف بيقدروا يعطوني حقي؟ أيا حق؟ اللي ماتوا؟ ما هن خلص اندفنوا بتربتهن. يما اندفنوا شقف، مش قطعة واحدة. حق دمهن اللي عالأرض؟ ماهو كمان هادا كيف ممكن ينصفوني؟ رح يقولولي إنه العدل والانصاف معناتو إنه يتحاكموا هدول المجرمين. طيب مين هن المجرمين؟ ما نصهن عملوا أفلام وفيديوهات. واعترفوا بالعلن: بيقولوا إنه صار الشي وخلص. لأ وأقولك شي: في منهن طلعوا يطلبوا انه نسامحهن. يا ويلي. نسامحهن. يا ويلي.
عابد قام على رجليه، بدأ يتحرك جيئةً وذهاباً وهو يمسك بيسجارته البيضاء الرفيعة، لم تكن أم سليم تميز نوعها، لكن رائحتها القوية كانت لا تريحها.
يما، أنا والله ما بدي منهن يعطوني حقي. أصلا كيف بيقدروا يعطوني حقي؟ أيا حق؟ اللي ماتوا؟
يما كيف حدا اله حق يسامح؟ أصلا انا صحيح ما متت بلحظتها لإنهن ما وصلولي، بس يعني ما مات كتير اشيا جويتي. يما أنا بشوف ابوي واخوتي كل يوم. بشوفهن بيصرخوا علي وفيي: إنه يا عابد ما بتستحي؟ والله يما أنا بستحي وكتير. طيب جرينا وترجينا وحكينا مع كل خلق الله إنه يا عمي هدول معترفين. بتعرفوا شو قالولنا: اصبروا. لأ ومين أكذب من هدول كلهن: تبعون الايمان: قال شو بكرا حقكوا بتوخدوه فوق. ما بدنا حقنا نوخده فوق. أنا بدي حقنا نوخده هون. متل ما قتلوا أهلنا. كمان هن يدفعوا التمن.
*الآريا في الأوبرا هي تعبير عن شعور الشخصيات وتوضح الذروة العاطفية في الدراما وهي أكثر تعبيرية وتنغيما وتحتاجٍ إلى صوتٍ قوي وموسيقى قوية.
نُشر في ملحق القوس الصادر عن صحيفة الأخبار اللبنانية، بِتاريخ 10 أيلول 2022.
آريا* صبرا وشاتيلا | القوس (alqaous.com)