إنه «عمدة المزاريطة» الشخصية التي اخترعها الفنان المصري متعدد المواهب أحمد مكّي، الذي برهن أنه لا يزال يستطيع تقديم ما لا يستطيعه غيره في مجال الكوميديا المباشرة الممزوجة بكوميديا الإيفيه المصري التقليدي، وكوميديا الحركة المشرقية، القادمة من مسرح الرحابنة كمثال. يأتي الجزء السادس من سلسلته التي باتت شهيرة من خلال شخصياته التي يؤديها هو بنفسه: الكبير، جوني، حزلقوم. هذا الجزء الذي يأتي هذا العام إستكمالاً لخمسة أجزاءٍ سابقة بعد غيابه ستة أعوامٍ طويلة عن الشاشات عاش خلالها أكثر من تجربةٍ، ودرس «نفسه» أكثر كما يشير في إحدى المقابلات، ليقرر بعدها العودة إلى مسلسله الأثير الذي قدّمه للجمهور العربي بشكلٍ مختلف، خصوصاً أنه ليس الممثل فقط، بل المنتج المنفذ، فضلاً عن أدائه أغنية البداية.
إنها تقريباً حكايات الكبير ذاتها التي كتبها منذ الجزء الأوّل المصري مصطفى صقر الذي عرفه الجمهور من أعمال كوميدية مهمة مثل «الحرب العالمية الثالثة» (2014) وأعمال جادة مثل «قابيل» (2019) وأخرجها شريك مكي شبه الدائم أحمد الجندي الذي عرفناه في معظم أعمال مكي السابقة «سيما علي بابا» (2011) و«اتش دبور» (2008) و«لا تراجع لا استسلام» (2010)، و«طير انت» (2009). إنها الشخصيات الأثيرة التي أحبّها الجمهور، تعود من جديد. ميزة «الكبير أوي» أنّه قائمٌ بقده وقديده على أحمد مكي شخصياً، إذ إن الأبطال الثلاثة الرئيسيين في المسلسل يؤديهم هو شخصياً، بالتالي هو لا يحتاج أحداً إلا لإكمال الصورة معه، لا أكثر ولا أقل. مثلاً غابت «هدية» زوجته وشريكته في كل المواسم السابقة الممثلة الماهرة دنيا سمير غانم، التي تمتاز بالأداء الجيد والقدرة على الغناء والتقليد؛ استبدلها مكي بدون عناء بممثلة واعدة لديها موهبة جميلة هي رحمة فرج القادمة بقوة من مسلسل «أمين وشركاه» مع الممثل أحمد أمين، ولم يتأثر العمل كثيراً. في الوقت عينه، حافظ مكي على الشخصيات التي واكبت نجاح المسلسل، فبقي «هدرس» الموهبة الجميلة محمد سلام، المتألق للغاية بيومي فؤاد في شخصية الدكتور ربيع، هشام إسماعيل الذي برع هذا العام في تأدية شخصية محمد البلتاجي في مسلسل «الإختيار: القرار».
أضاف مكّي هذا العام شخصية الكبير فحت التي أدّتها بتميز سماء ابراهيم، وهذا يثبت أن سماء موهوبة، لكنّ المخرجين والكتّاب يحشرونها في أدوار لا تظهر موهبتها. لربما «التناسب» واحدة من أهم سمات «الكبير أوي» والعمل مع أحمد مكّي عموماً. لقد أخرج مكي أحسن ما في ممثليه: لم تكن أسماء محمد سلام، بيومي فؤاد، وهشام اسماعيل وحتى دنيا سمير غانم معروفة إلى هذا الحد قبل تجربة «الكبير أوي». أعطى المسلسل نجاحاً كبيراً وفرصة لإطلاق هؤلاء النجوم وأظهر موهبتهم، وهذا يظهر مدى جهد مكي المبذول في العمل. إذ إنه لم يكتفِ ببناء شخصيات، بل أعطاها -كما في مدرسة الكتابة الإبداعية- أبعاداً وصفات وحياةً وعمقاً جعلها حقيقية. مثلاً فزّاع بات الجميع يعرف كيف يفكّر، وكيف يتحرّك، وماذا ينتظر منه؛ مما مكّنه مثلاً من تقديم «فيلم مستقل» قائم بحد ذاته قبل سنوات حول الشخصية بحد ذاتها.
في القصّة، يعود الكبير بعد أعوام الغياب الستّة إلى المزاريطة، لكن المشاكل هذه المرّة أكبر، وإن كانت تدور في الإطار العام ذاته. يكاد يخسر منصب «العمدة» و«العمودية»، لتظهر عمّته وتقرر تزويجه مع إيفيهها الشهير: «انت مش مزبوط يا واد» في إشارة إلى أنّها تشعر بأنه ليس في حالته الطبيعية. الزوجة هذه المرّة هي «مربوحة» التي تختلف اختلافاً جذرياً عن «هدية»؛ إنها مندفعة، متكلمة، كثيرة الحركة، وفوق كل هذا علاقتها بالكبير تبني لبنةً لبنة. القصة كعادة المسلسل تأخذ أبعاداً كثيرة. بعدما استخدم فيلم «شمس الزيناتي» و مسلسل prison break كثيمة في حلقاتٍ من أجزائه السابقة، يستخدم مسلسل squid games كثيمة جديدة في هذا الجزء.
يجيد مكي كثيراً استخدام الإشارات أو كما تسمّى easter eggs في العمل. مثلاً يشير في حديثه لجوني شقيقه عن عمّته «الكبيرة فحت» إلى أنّ «إسمها لا ينطق مثل فولدمورت بتاع هاري بوتر» المعلومة كعادة المسلسل تمر بسهولة بالغة كما لو أنَّ الثقافة «المعقّدة» باتت سهلةً للغاية. إن معظم شخصيات المسلسل تعرف أشياء لا يعتقد المشاهد أنها يمكن أن تكون تعرفها، كأن تعرف «الكبيرة فحت» مثلاً أسماء «مغنيّ راب old school وتعتبر أن هذا أمر بديهي. هي حرفة الكوميديا والمعلومة السريعة الذكية وإن لم يكن الهدف التعريف بمقدار إظهار اتساع الثقافة.
أدائياً، نحن بالتأكيد أمام مدرسة خاصة يحاول مكّي منذ مدّة صنعها والتأكيد عليها. إنها مدرسة «مزجية» خاصة، بمعنى أنه لا يستخدم كوميديا الإيفيه المصرية المعتاد فقط، بل يتعداها إلى ذلك حيث يقدّم كوميديا الشخصية والحركة معاً. هو يبدأ من نفسه، بشخصياته الثلاث الرئيسية: الكبير، جوني وحزلقوم. لكل شخصيةٍ من الثلاث ثيابها، حركتها، منطقها، إيفيهاتها وردة فعلها المختلفة. الكبير يرتدي الثياب الصعيدية، يتميز بشاربيه الكبيرين، حليق الرأس، يتحدث لهجةً صعيدية خالصة، وفوق كل هذا صلب، قاس لا يرحم، لكنه يفاجئ الجميع بأنه «عائلي» و«حنون». للكبير إيفيهاته الخاصة مثل «جزرة وقطمها جحش» في إشارة لقطع النقاش نهائياً. جوني القادم من أميركا، توأم الكبير، الذي يتحدّث الإنكليزية بطلاقة ويبدأ هذا الجزء مع شعره الطويل المجدل على طريقة dread looks؛ جوني يتحرّك كأي مؤدي راب، ويتصرف على هذه الشاكلة ولديه هو الآخر إيفيهاته مثل: «جدّي خالص» في إشارةٍ للتأكيد على المعلومة.
أما حزلقوم فهو شخصية كان قد أداها في السابق في فيلم «لا تراجع ولا استسلام» (2010) وفي مسرحية «حزلقوم» (2020). إنه فتى ذو شعر برتقالي ونمش على الوجه، ذو صوتٍ ناعمٍ للغاية، ويبدو من ثيابه ومنطقه كما لو أنه يعيش في ثمانينيات القرن الماضي. فوق كل هذا «مرزوق» للغاية يتمكن بسهولة من تحصيل المال والثروة على الرغم من بساطته وأخطائه الكثيرة. لا يشعر المشاهد أنه أمام شخصٍ واحدٍ في المسلسل، على الرغم من أن الشخصيات الثلاث غالباً ما تكون معاً في مشهدٍ و«كادر» واحد، وهذا يظهر مدى مهارة الممثل والمخرج المصري الشاب. ذات الفكرة وإن بشكلٍ آخر، نجدها لدى الشخصيات الأخرى في العمل. ففزاع أو هجرس يتحرّكان ويتحدثان بطريقةٍ خاصة وإن استخدما «ألفاظاً» خاصة بهما و«حركة» خاصة كذلك: هجرس لا يلفظ الجيم نهائياً، فيصبح حتى اسمه «هدرس»، ويحاول كل الوقت أن يتحدّث بلغة انكليزية ضمن منطق المعجب بالشيء غير المدرك له، فيخطئ في كل الكلمات الإنكليزية تلك ليصحح له «جوني» كل الوقت.
أما فزّاع الذي تعتقد أنه شديد الغباء في لحظةٍ ما، ليفاجئك بأنه يعرف كثيراً ويدرك أكثر، لكنه يمارس الغباء أو يدعيه ليستطيع النفاذ من سلطة الكبير وسطوته. أما الدكتور ربيع، وهو دكتور الوحدة الصحية في المسلسل، الذي يؤدي دوره بإتقان بيومي فؤاد، فهو قصة بحد ذاته، لناحية ما يقوم به من حركة وايفيهات لدرجة أن المشاهدين كانوا ينتظرون ظهوره على الشاشة لمعرفتهم بأنَّ الشخصية تمتلك قدرة على الإضحاك وبسهولة بالغة. هذا الأمر يقاس عليه كثيراً في كل الشخصيات التي صنعها أحمد مكي في هذا المسلسل.
باختصار، هو مسلسل يستحق المشاهدة والمتابعة، بداية لجهد أحمد مكي الكبير فيه، وثانياً لجهد الممثلين والمؤدين الآخرين، وصولاً حتى المخرج وصناع العمل الباقين.
نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بِتاريخ 25 نيسان 2022