«أصحاب ولا أعز» منسيّاً.. لولا المطاوعة
معلومات عن الكاتب

«أصحاب ولا أعز» منسيّاً.. لولا المطاوعة




يأتي الصراع المستعر على مواقع التواصل الإجتماعي وفي الواقع الحقيقي؛ حول فيلم «أصحاب.. ولا أعز» (نتفليكس) بين نوعين من الأشخاص من الفصيلة نفسها ولو على ضفتين: «طقوسيون» يدّعون «العفّة» و«الطهارة»، أصحاب نظرية «أخلاق» لكنها «أخلاقهم الخاصة»، وآخرون أصحاب نظرية «تغريب مطلقة» كل ما خلافها مرفوضٌ مذموم.
يأتي الأوائل مطاوعة بثيابٍ حديثة، يعتبرون أنَّ أي خروج «درامي/ثقافي» عما يعتبرونه هم مألوفاً يستحق «الويل واللعن والتهديد والوعيد»؛ يتحضّرون دوماً لإعادة تذكير المجتمع بسطوتهم كمطاوعة للمجتمعات المشرقية وسيف ديموقليس المسلط –دائماً- على الرؤوس. على المقلب الآخر، مطاوعة» من نوعٍ ثانٍ: فيلمٌ غربي بالمطلق، بمنطقٍ وعادات، وسلوكات غربية: يهضمونه بأكمله، ويسقطونه بأكمله على مجتمعاتنا، وإذا ما علت أي صيحة استهجان، تكون النتيجة تهمة واحدة: هذا مجتمعٌ متخلّف
.

في ثمانينيات القرن الماضي، واجهت شركات إنتاج الدارما/الأفلام مشكلةً كبرى: سوق الأفلام بات الخليج العربي، وهذا كان أمراً مربحاً للغاية، لكن كان للخليج قوانينه وضوابطه. لم تكن تلك الضوابط كما يعتقد الجميع؛ كان الضابط الأبرز هو نقطة واحدة فوق كل شيء: لا حديث في السياسة، لا حديث في القوانين/ الضوابط المجتمعية، لا حديث في أيٍ مشكلةٍ تعني النظم الحاكمة في أي حالٍ من الأحوال. كانت الدراما المصرية هي السائدة، أفلاماً ومسلسلات. بالتأكيد كانت هناك بعض المحاولات الخجولة من الدراما اللبنانية والسورية، لكنها لم تكن لتنافس البتة.
من هنا وُجد ما يسمى «أفلام المقاولات» التي كانت أعمدتها الرئيسية ثلاثاً: الراقصة، البطل الفهلوي، والجريمة (مخدرات-قتل-سرقة وسواها) وبالتأكيد لا ننسى الشرطة التي تصل متأخرة (أو لا تصل أبداً). كانت أفلاماً بلهاء بكل ما للبلاهة من معنى: لا معنى، لا مضمون، فقط رقصٌ بلا أي معنى -مستواه حتى أقل من مستوى الرقص في الأفلام الهندية- بطلٌ يمارس ذكاء سخيفاً على «بلهاء» حوله، وراقصة/حبيبة تؤدي الدور بذات التفاهة
.

اللافت أنَّ نجوم مصر المعروفين أدّوا ضمن هذا الإطار وإن لم يجرؤ أحد على نعت فيلم مثل «حنفي الأبهة» (1990 للمخرج محمد عبدالعزيز والكاتب بسيوني عثمان) «للزعيم» عادل إمام بهذا الوصف، أو «نجمة الجماهير» (كما كانت تلقب نفسها) ناديا الجندي في فيلم مثل «عصر القوّة» (1991 للمخرج نادر جلال والكاتب بشير الديك). كانت الفكرة أنّ تختفي السياسة -وهي الخبز اليومي للشارع العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي- من عقل المشاهد، وتحل محلها «التسلية للتسلية» لا أكثر ولا أقل. مع بداية الألفية، احتلت الدراما السورية الواجهة وباتت تهدد بالحلول مكانها (ناهيك بفوزها عليها في الأعوام من 2004 إلى 2010 واستئثارها بالجمهور العربي كما بالشاشات الخليجية، نظراً إلى قوة أداء ممثليها وعمق المواضيع التي طرحت).
بدا أن الدراما المصرية تخسر، وبأنَّ مواضيعها قديمة ومستهلكة في كثيرٍ من الأحيان. كان لا بد من أن تغيّر الدراما المصرية جلدها بعض الشيء، ولحقتها بهذا الدراما العربية تباعاً: كانت الضالة دراما علم النفس، الدراما النفسية. وهطلت الدراما النفسية، فأبدعت نيللي كريم في أكثر من أربعة مسلسلات رمضانية (مثل «تحت السيطرة»/ 2015 ــ «سقوط حر»/ 2016، و«اختفاء»/ 2018) بتقديم دراما نفسية لا يمكن فهمها أو متابعتها أو حتى إدراك عمَّ تتحدث.
كانت الدراما المصرية تتدرب على تقديم أعمال، لا تقول شيئاً، لا تعني لأحدٍ شيئاً، والأهم أنَّها لا تتحدّث في السياسة نهائياً. بدورها كانت الدراما السورية واللبنانية غارقة في لعبتها هي الأخرى: الخيانة، الطلاق، العنف الأسري. سطحت كثيراً من القضايا الرئيسية والمهمّة مع مسلسلات من نوع «حاجز الصمت» و«الخط الأحمر» (كلاهما لمخرج يوسف رزق والكاتب هاني السعدي) تناولا فيروس الإيدز بطريقة جد سطحية؛ و«صرخة روح» بأجزائه المتعددة التي وصلت إلى أربعة بدأت من العام 2013. علماً أنّ السلسلة تتحدّث عن الخيانة الزوجية بشكلٍ قائم على الإغراء الضحل وغير الضروري؛ والأهم استسخاف المشاهد. ما اشتركت فيه معظم تلك المدارس الدرامية هو السطحية والتسخيف في التعامل مع تلك القضايا المقلقة. بعد أفلام مصرية قوية ومؤثرة للغاية -في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي- مثل «أريد حلاً» (1975 فاتن حمامة ورشدي أباظة وإخراج سعيد مرزوق) و«زوجة رجل مهم» (1988 بطولة أحمد زكي وميرفت أمين واخراج محمد خان) وسواهما، انتهت المرحلة إلى أفلام تسطّح القضايا وتقدمها بطريقة تسخيفية من نوع «أريد خلعاً» (2005 من بطولة حلا شيحا وأشرف عبدالباقي واخراج أحمد عواض). اليوم تعود أفلام «الدراما النفسية» إلى الواجهة، وإن بطريقة «التغريب» المطلق عبر فيلم «أصحاب... ولا أعز» المقتبس عن فيلم
Perfetti Sconosciuti الإيطالي الأصل للكاتب فيليبو بولونيا والمخرج باولو جينوفيزي. وهو يمكن اعتباره من أكثر الأعمال التي تم اقتباسها واعادة تقديمها.

القصة بسيطة وتذكر كثيراً بمنطق قصة/مسلسل «عشرة عبيد صغار» التي قدّمت غير مرّة على الشاشات العربية: كلنا مخطئون، كلنا خونة، وكلنا لدينا أسرارنا التي سندفع ثمنها. هنا لا يدفع الأبطال ثمن ما قاموا به، بل بالعكس إن نهاية الفيلم –ولو أحرقناها على المشاهدين- تؤكد أنهم مستمرون في أخطائهم إلى النهاية. مجموعة أصدقاء يتجمّعون في منزل أحدهم لمشاهدة «الكسوف». لا يبدو المكان في دولةٍ عربيةٍ بعينها، وإن كان المشاهد يمكنه توقع أن يكون إما في لبنان، أو في دبي/ أبو ظبي. لبنان، نظراً لتحدّث معظم مؤدي العمل –لا أقول أبطال أو ممثلين إذ غابت الحرفة عن بعضهم- باللهجة اللبنانية، ودبي لأن هناك جاليات لبنانية وسورية تسكن في تلك المدينة منذ زمن حتى أصبحت جزءاً منها، هذا أولاً، وثانياً لأن دبي/أبوظبي «ملتقى» الطبقة الوسطى العربية الباحثة عن عمل، خصوصاً مع أوضاع لبنان الإقتصادية المتعثّرة منذ أكثر من عشر سنوات. يلتقي الأصدقاء، وسرعان ما تبدأ لعبة تشعلها مي (نادين لبكي) المستضيفة للقاء، حيث على كل واحدٍ منهم أن يجيب ويقرأ بصوتٍ مرتفعٍ كل رسائله ومكالماته الواردة أمام الجميع، بعدما أدعى كلٌ على طريقته بأن لا أسرار يخفونها. سرعان ما يبدأ سيلٌ من الأسرار بالظهور.
كتب النسخة العربية غابريال يمّين متشاركاً مع مخرج العمل وسام سمَيرة، لكنهما لم يبدءا من الصفر، إذ «لبنانا/عرّبا» القصة الأصلية، حتى تناسب –بحسب وجهة نظرهما- الأجواء العامة للمجتمع العربي/المشرقي. لا بد من حرق بعض التفاصيل في الفيلم، ومن لم يشاهد الفيلم فليتخطى هذا الجزء من المقال. بدت ردّة فعل مريم (منى زكي) مبالغة بعض الشيء حين علمت بأن زوجها شريف (إياد نصّار) مثلي الجنس بعد حديثه «المفترض» مع عشيقه: نزلت دمعةٌ من عينيها، في المعتاد كانت ردّة الفعل هذه لتبدو أقرب إلى التصديق لو كانت المتحدّثة فتاة، أما إذا كان المتحدّث ذكراً، فذلك سيؤخذ على شكل «مزحة» أو توقع أنه «مقلب» أو حتى توقع أن المتحدّث «مخطئ» أو حتى –ضمن إطار الفيلم عينه- أن يكون «مخموراً» أو تحت تأثير المخدّرات. هي لم تتوقع كل هذا. في الغرب خصوصاً مع انفتاح المجتمعات أمام المثلية، تبدو الأمور أكثر بروزاً. أما في بلادنا، فهذه الأمور لا تزال غير «متوقعة» البتة، خصوصاً من رجلٍ متزوجٍ لديه أطفال.
إياد نصّار حاول أن يقول إن الأمر «مقلب»، لكن ردّة الفعل بدت مبالغة في مشهدٍ لربما هو الأضعف في الفيلم، خصوصاً مع أسلوب نصّار الأدائي –الذي ينفع أحياناً والذي شاهدناه مثلاً في مسلسل «القاهرة 82» في رمضان ما قبل الفائت. النقاش يتصاعد في هذا المشهد حيث نشهد نقاشاً غريباً بين زياد (عادل كرم) وصديقه الصدوق شريف حول «حقه» بمعرفة ما إذا كان صديقه «مثلياً» أم لا: -في المعتاد- هذا أمرٌ لا يناقش كثيراً بين الأصدقاء في المجتمعات العربية، فالعلاقات الجسدية، وميول الشخص الجنسية، قلما نوقشت في العلن، لا بين الأصدقاء الذكور، ولا بين الصديقات النساء.
لا يزال المجتمع العربي شخصياً، خاصاً، وداخلياً في قضايا كهذه. ماذا عن الـ
Elephant in the Room ؛ بدت حادثة خلع الكاركتير الذي تؤديه منى زكي في بداية الفيلم لسروالها الداخلي، والذي أقامت مطاوعة المجتمعات المشرقية ولم تقعدهم، سخيفةً للغاية –لا لرمزيتها- بل لأنه لا حاجة درامية لها البتة. فعلياً، ما حاجة الفيلم لمشهدٍ كهذا غير إثارة غضب هؤلاء المطاوعة؛ وفي هذا سؤال حقيقي لصنّاع العمل: هل هم فعلياً تقصّدوا الأمر لتحقيق مزيد من الضجّة؟

أدائياً، بدا معظم الممثلين مفتعلين، over acting في معظم مشاهد الفيلم، على الرغم من قوّة أسمائهم. كان الجو العام في الفيلم متوتراً منذ لحظاته الأولى، وهذا أرخى بظلاله على أداء الممثلين: بدا الجميع –دون استثناء- يمثلون «بتوتر»؛ حتى هدوء وليد (جورج خبّاز) بدا افتعالياً، وظهر ذلك حين تحدّث لاحقاً في الفيلم مع ابنته التي تود المبيت عند حبيبها. هل هذا كان قصد صنّاع العمل؟ لا أحد يعلم. ديامان بوعبود (بدور جنى)، مثلاً لحظة اكتشافها لخيانة زوجها (زياد/عادل كرم) تبدو في أضعف أداءاتها، الممثلة اللبنانية تؤدي عادةً بمقدارٍ جيد: هنا بدت واهنة، لربما لغياب أي كيمياء أدائية بينها وبين عادل كرم. أمر جعل المشهد مفتعلاً إلى هذا الحد. منى زكي من جهتها هي واحدة من أفضل ممثلات جيلها عربياً، لا يخفى على أحد أنها في مشاهد كثيرة أدت إداء مرتفعاً، لكن في المجمل بدت متوترة معظم الفيلم، حتى ما قبل اكتشاف المصائب التي تجمعها/ تفرّقها عن زوجها في العمل إياد نصّار. هي كمؤدية تظهر على ملامح وجهها حالتها النفسية، بالتالي كان عليها التنبه إلى أن المشاهد سيتنبه إلى أنَّ «المصيبة» قادمة. فهل كانت هناك حكمة خلف ذلك؟

فؤاد يمين (بدور ربيع) ممثل مخلصٍ لأدائه «اللبناني». منذ قيامه بإعلانات مشروب الطاقة Buzz ولا يزال على الأداء نفسه: الشخصية الضعيفة الخجولة التي تبدو محببة ولكنها تتعرّض للتنمّر بشكلٍ دائم. عادل كرم من جهته يؤدي دائماً بذات الطريقة –شأنه شأنه يميّن-؛ هو يؤدي نفسه/شخصيته في –تقريباً- جميع الأعمال التي شارك فيها منذ برامج النقد/الكوميديا التي أطلقته على التلفزيون قبل سنوات. الإنفعالات هي ذاتها، الضحكات هي ذاتها، وحتى التوتر هو ذاته. نادين لبكي مهما اتفقنا أو اختلفنا معها، مخرجة جيدة، لكنها ممثلة متواضعة للغاية، وفي هذا لا إهانة البتة لها؛ لذلك لا مشكلة إن اكتفت بالإخراج وتركت التمثيل لمحترفين أكثر.

اخراجياً، لا يمكن الحديث عن تقنيات إخراجية أو زوايا تصوير في عملٍ صوّر بغالبه داخل مساحةٍ مغلقة (بيت)؛ ناهيك بأنَّ المخرج لم يستعمل الكاميرا الضيقة/ المقرّبة (close cam) لنرى مشاعر المؤدين بل بقيت كاميرته كما هي في معظم الأوقات. بدا مخرج العمل وكاتبه مستمتعين بمشاهدة الفيلم وأداء المشاركين، فتم الاكتفاء بالتصوير وبعض المونتاج للصق المشاهد ببعضها.

باختصار؛ هو فيلمٌ لا يستحق الضجة الكبيرة التي ثارت حوله وعليه لأسبابٍ لا تتعلّق به كعمل فنّي. هو عمل فني عادي، ليس فيه تلك الحرفة أو المهارة التي تجعله يتربع على عرش شيء: لا أداء «خارقة» ولا مشاهد لا تنسى، ولا حتى نص يمكن المراكمة عليه كنصٍ متقدّم. إنه عملٌ لولا المطاوعة في مجتمعاتنا المشرقية، لكان ببساطة نسي في يوم عرضه.

 

 

نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 25 كانون الثاني 2022

https://al-akhbar.com/Literature_Arts/328735