أيّها الغريب تمهّل.. هذا آخر عهدك بالرحيل!
معلومات عن الكاتب

أيّها الغريب تمهّل.. هذا آخر عهدك بالرحيل!




مات مظفّر النوّاب. مات ولم يرحل. لطالما لاح له الموت على أكثر من هيئة. هو الطفل الذي جاء بولادة عسيرة، وخرج بأنفاس منقطعة دفعت بالقابلة القانونية الألمانية لرميه على الفراش كي يتنفس ويصرخ[1]، وهو الشاب الذي تظاهر وهتف واعتُقل وعُذّب، وهو الرجل الذي نجا من حكم الإعدام، ولم ينجُ منه الحكّام، وحَفرت عميقاً في روحه تغريبة مؤبّدة. الشاعر الذي هو كل أولئك بمراحل المرارة والثورة كلها، كان مُرّاً أن يموت يوم الجمعة، وأشرس حضوراً من أن يرحل.

"كأنّا جالسون في قرص شمس" [2]

كان مظفّر النوّاب منتصراً للضوء، على عكس ما ننتظر من رجل مرّت عليه صنوف الظلمات. "لقد أظهر هذا الطفل في صغره ولعاً غريباً بالنور فكان يتجه نحو أي مصدر للضوء في البيت"[3].  لعلّ ذلك من أولى مؤشرات تمجيد النوّاب للحقّ بسطوعه، وانجذابه الفطري له. فقد استطاع أن يشقّ نوراً من كل مرحلة عتمة مرّت على بلاده، وقبعت طويلاً في حياته حين امتدّت إليها. وحين نقول بلاده، فلا نعني العراق فقط، موطنه الذي وُلد في منطقة الكرخ من عاصمته بغداد، بل كل البلاد العربية، وحتى أبعد منها، بما مرّت عليها من احتلالات ونكسات وانتصارات وعَودٌ للسقطات، مذ أبصرت عيناه النور في العام 1934.

من الجزيرة العربية حيث أصل العائلة التي يعود نسبها إلى الإمام موسى الكاظم(ع)، إلى الهند التي هاجر أجداده إليها، واستقروا في المقاطعات الشمالية منها (بنجاب، لكناو وكشمير) ثم بسمعتهم العلمية وشرف نسبهم، أصبحوا حكّاماً لها، ومن هنا كانت تسمية العائلة، النوّاب، من نيابة الحكم، وصولاً إلى العراق بنفيٍ سياسي من الحاكم الإنكليزي بعد موقفهم المقاوم والمعارض للاحتلال البريطاني للهند[4]. وكأنّ إرث العائلة الثابت، لم يكن فقط النسب الشريف، والسمعة والثراء والقصر الذي تنعّم به شاعرنا في طفولته، قبل أن تخسره العائلة وهو لا يزال تلميذاً في المدرسة، بل أكثر ما تمثّل هذا الإرث بالمقاومة والرفض، ومعهما النفي والغربة اللذين طبعا حياته.

كان لمظفّر النوّاب نشأة مفعمة بالعاطفة والتراث والفن. والدة متعلّمة تعزف البيانو، وخال يعزف آلة الكمان، وجدّ يجيد مع البيانو، العزف على آلة القانون، أما جدّه لوالده فكان شاعراً بالعربية والفارسية. خصوصية مكان القصر بجانب نهر دجلة، ومقابلته للسراي وساعة بغداد، ضخامته واحتوائه على الكثير من اللوحات والتحف من كل دول العالم، مما كان يقدّمه السفراء والمدعوون إليه، المواكب العاشورائية التي كانت تدخل وتجوب باحات القصر بخيولها ومشاعلها وأعلامها وضرب الصنّاجات فيها، إحياءً بذلك لذكرى عاشوراء وتمثيل الواقعة، رائحة العطور وماء الورد الذي كان يُرشّ على المواكب، كل هذه اللوحات الفنية والإنسانية الحية التي سكنت لاوعيه، واستمرت في وعيه، بالإضافة إلى “التركيبة العاطفية الحادة” لعائلته كما يعبّر عنها، ساعدت على تكوين مخيلة ومساحة واسعة ليس للكتابة الشعرية الموزونة بالسليقة فحسب، بل أيضاً للون والرسم والموسيقى والكتابة المسرحية.[5]

"ويسألني: من أنت؟

خجلتُ أقول له: قاومت الإستعمار فشرّدني وطني"[6]

لقد عايش النوّاب حياة أمّته بفصولها الكثيرة، بانقلاباتها، باستعمارها، بتحررها، بحكّامها الذين لم يسلموا من قصائده، بل كانت لهم فيها الحصة الأكبر من الهجاء.

لطالما أثار انضمامه إلى الحزب الشيوعي، في فترة دراسته، وخروجه في التظاهرات، تعجبا، أكثر ما كان من المحققين، الذين كانوا يتساءلون عن أسباب انتمائه للشيوعية رغم أنّه من عائلة ثرية معروفة بتاريخها الأرستقراطي.

"مؤرخ ثوري يكتب بالشعر علم الشعب وتاريخ مدن الفقر والمخيّمات، ويدوّن بحروف ملتهبة غاضبة آلام المقهورين والمعذّبين ويتامى الوطن العربي"

وهكذا منذ بداية حياته، كان نصير الناس، يصفه باقر ياسين في دراسته بأنّه “مؤرخ ثوري يكتب بالشعر علم الشعب وتاريخ مدن الفقر والمخيّمات، ويدوّن بحروف ملتهبة غاضبة آلام المقهورين والمعذّبين ويتامى الوطن العربي"[7].

فهو حين عُيّن بعد انهيار النظام الملكي في العراق في العام 1958، مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، قام بدعم العديد من المواهب في الموسيقى والفن التشكيلي.

وحين قامت التظاهرات بعد ثورة تموز/يوليو 1958، وعلى مدار فترة اعتقاله ظلماً بتهمة ارتكاب جريمة قتل لم يكن متواجداً في مكانها أصلا، كان يجالس المعتقلين العاديين، لا المعتقلين السياسيين، كي يستمع إلى همومهم العادية ومشاكلهم، وأفكارهم. كان قريباً من الناس، وقد فاجأت شخصيته سنان أنطون الذي ذكر ذلك في مقدمة مقابلته معه في مجلة الدراسات العربية "حين قابلته في بوسطن قبل سنة، فوجئتُ بأنّ الشاعر الذي يتفجّر غضباً في قصائده هادىء هدوء الطفل ويقطر رقةً حين يتكلم"[8].

اضطُّر لمغادرة وطنه، حين وقع التنافس الدامي بين القوميين والشيوعيين في العام 1963، ولكنّ مرحلةً قاسية من الإعتقال والتعذيب على يد المخابرات الإيرانية أيام حكم الشاه، كانت بانتظاره.

ولكنّ الشاعر الذي لم تتعارض رقته مع ثورته، بل تكاملت لتنتجَ لنا هذا الكم من الشعر الأصيل إنسانياً والمتفجّر ثوريا، قد اضطُّر لمغادرة وطنه، حين وقع التنافس الدامي بين القوميين والشيوعيين في العام 1963، وبدأت الملاحقات والرقابة الشديدة من قِبل النظام الحاكم، فهرب نحو إيران عن طريق البصرة، تمهيداً للوصول إلى الإتحاد السوفياتي، ولكنّ مرحلةً قاسية من الإعتقال والتعذيب على يد المخابرات الإيرانية أيام حكم الشاه، كانت بانتظاره، وقد وصفها بحروف موجعة، في قصيدة وتريات ليلية/الحركة الثانية، ووثّق فيها كل الألم والمعاناة، بل وصموده الكبير، وبأنّه رفض الاعتراف بأي شيء رغم التعذيب.

"توجهتُ إلى المطلق في ثقة. كان أبو ذرّ خلف زجاج الشباك المقبل

يزرع فيّ شجاعته فرفضت

                        رفضت

وكانت أمي واقفة قدام الشعب بصمت.. فرفضت

اعترف الآن.. اعترف الآن

رفضت..

وأطبقت فمي، فالشعب أمانة في عنق الثوري

                                        رفضت"[9]

ويستمر درب الاعتقالات والسجن والإتهام، ليبلغَ ذروته بتسليمه من قبل المخابرات الإيرانية للسلطات العراقية، وفي المحكمة العسكرية العرفية في بغداد، أدّت مساعي أهله وأقاربه إلى تخفيف الحكم من الإعدام الذي طالب به المدعي العام العسكري، إلى المؤبد، مضافاً إليه 3 سنوات بسبب قصيدته الشعبية الشهيرة (البراءة). إلا أنّ شاعرنا الذي لطاما جذبه النور ورفض أي شكل للظلم والظلمة، استطاع أن يسجّل هروباً أسطورياً من السجن الصحراوي الذي كان فيه، حيث حفر عميقاً تحت الأرض هو ومجموعة من السجناء واستطاعوا الهروب في العام 1967. [10]

غادر إلى بيروت، ثم إلى دمشق، وبعدها تنقّل بين الدول الأوروبية، والعربية، وزار الهند، وظل هكذا في تغريبته وارتحاله.

عاش حوالي السنة في جنوب العراق، إلى أن صدر في العام 1969 عفو عام عن المعارضين السياسيين فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية. ليعودَ ويُعتقل مع من اعتقلوهم من صفوف الشيوعيين، قبل أن يتدخل رفيق له في حزب البعث، علي صالح السعدي، ويؤدي ذلك إلى إطلاق سراحه. لقد غادر إلى بيروت، ثم إلى دمشق، وبعدها تنقّل بين الدول الأوروبية، والعربية، وزار الهند، وظل هكذا في تغريبته وارتحاله.

"يا ريل صيحْ ابقهر  صيحةْ عِشكْ يا ريل"[11]

إنّ الإنتقال من سيرة النوّاب الذاتية، إلى سيرته الشعرية، لا يحدث منفصلا، إذ أنّ كل مرحلة أضافت طابعاً ما، وشكّلت لوناً في رسم لوحاته الشعرية.

في بداية سنيّ عمره العشريني، وبين العام 1956 و1958 كتب مظفّر النوّاب، قصيدته العامية، “للريل وحمد”، والريل هو القطار الذي استمع فيه لحكاية امرأة كانت تحكي قصة حبيبها حمد، فجاءت القصيدة على لسانها، محبوكةً بنصّ عاطفي جياش. هذه القصيدة، لم تنهض فقط بجمالية الشعر العراقي العامي، بل كانت قصيدة مفعمة بمعاني التجديد، والمفاهيم الجريئة ما جعلها "حافلة بالمفاجآت، لغةً وبناءً وموضوعا، حتى أنّ سعدي يوسف قال، في حينه، إنّه يضع جبين شعره، تحت عجلات "الريل وحمد"[12]. ولم تكن هذه قصيدته العامية الوحيدة، بل لحقها أكثر من قصيدة باللهجة العراقية إلا أنّه لم يستمر بكتابة العامية لوقت طويل خاصة بعد خروجه من العراق، وهو يعبّر عن ذلك بقوله: "الحقيقة أنّني لا زلت أكتب العامية. لكنّ ابتعادي عن العراق كوّن لي إشكالية على هذا الصعيد. فالعامية لها علاقة بالفرد العراقي. في الأهواز، في المستنقعات، في الريف، في المدينة، في أثناء عمله، وأوقات أفراحه وأحزانه"[13].

"دلّتني الأشعار عليك (…)

فكيف أدلّ عليك بجمرة أشعاري"[14]

إذا أردنا أن نبحث في أسلوب مظفّر النوّاب الشعري، فإنّنا سنحتاج إلى مجلدات من التحليل الفني والأدبي للكلمة والصورة والتشبيه والأغراض والتراكيب، إلا أنّنا سنتناول بعضاً من ذلك بقدرٍ يسمح لنا أن ننقل هذه العبقرية الشعرية التي وصلت إلى القلوب قبل العقول.

لا يتوقف حضور الموروث العربي والإسلامي في شعر النوّاب عند ذكر الأماكن والأشخاص والأحداث، بل يتمثّل هذا الحضور بالنصّ القرآني نفسه، فنجد تلويحاً بنصّ تراثي أو حقيقة تاريخية من خلال جملة شعرية تعبّر عن ذلك.

حين نقرأ في شعر النوّاب، يواجهنا الكلام المباشر عند حديثه في السياسة، ونغرق في جمالية المجاز حين نصل إلى المقاطع الوجدانية. نقرأ التاريخ ونتعرّف على أبطاله وطغاته. فنلتقي بعليّ بن أبي طالب(ع) وأبي ذرّ الغفاري(رض) والحسين(ع)، ثم يأتي يزيد ومعه أبو سفيان ومعاوية. ونزور في شعره كربلاء، والبصرة، وبغداد، ومدناً أخرى، كما نشاهد الوقائع التاريخية، عندما نمرّ بذكر واقعة الجمل، وكربلاء وثورة الزنج وغيرها.

لا يتوقف حضور الموروث العربي والإسلامي في شعر النوّاب عند ذكر الأماكن والأشخاص والأحداث، بل يتمثّل هذا الحضور بالنصّ القرآني نفسه، حيث تمرّ بنا أجزاء من آيات قرآنية حينا، ويأتي النصّ القرآني مرسلاً في نسيج الجملة الشعرية حيناً آخر. وكذلك، نجد تلويحاً بنصّ تراثي أو حقيقة تاريخية من خلال جملة شعرية تعبّر عن ذلك.

كتب النوّاب الشعر المقفّى، والموزون، التقليدي والحديث. وتميّز شعره بظاهرة التكرار، الذي استخدمها لبعض المفردات أو الجمل الشعرية. كان يؤكد بها على المعاني، ويعيد بها ترتيب مقطع شعري أو تركيبه. ولا يمكن أن تغيب عن القارىء لشعره لمحات صوفية عبقت بها العديد من قصائده. [15]

"القدس عروس عروبتكم؟"[16]

حين نبدأ بهذا الشطر من قصيدة وتريات ليلية، سنجد الملايين ممن يكملون أبياتها، وتساؤلات الشاعر فيها بغضب وتمرّد، واستنكار واضح لا يخاف ولا يتملق، بل يستخدم أقسى العبارات، إلى حد الشتائم. ربما، لا يعلم الكثيرون أنّها من قصيدة وتريات ليلية/الحركة الأولى، ولكنّهم يحفطون أبياتاً منها عن ظهر قلب. لأنّ مظفّر النوّاب هنا قال ما يجول في نفس الشعب العربي كله، هذا الشعب الذي كبّلته الأنظمة، فلم يتجرّأ أغلبه على التفوه والتعبير.

كانت فلسطين في شعره الأكثر حضورا، وسطوعا، كان في قصائده قنابل تهزّ عرش الحكام. لم تكن هجاءً عادياً بقدر ما كانت غضباً يفجّره في وجوههم، وتعريةً لإمعانهم في ضرب الشعوب وسلب حقوقها، بل وإباحة دولهم للعدو المستعمر، صمتاً وفعلاً وتآمرا.

لقد حضرت الأمة العربية كلها في شعر النوّاب، من بغداد إلى سوريا ولبنان، إلى القمة العربية برمّتها، فكيف لفلسطين أن تغيب. كانت فلسطين في شعره الأكثر حضورا، وسطوعا، كان في قصائده قنابل تهزّ عرش الحكام. قصائد مهاجمة الحكام كرمى لعيون فلسطين، وبقية الشعوب العربية أيضا، لم تكن هجاءً عادياً بقدر ما كانت غضباً يفجّره في وجوههم، وتعريةً لإمعانهم في ضرب الشعوب وسلب حقوقها، بل وإباحة دولهم للعدو المستعمر، صمتاً وفعلاً وتآمرا.

أخذ عليه بعض الناقدين، استخدامه الألفاظ النابية والشتائم، خاصة تلك القصائد التي تنضوي تحت لواء "شعر النضال السياسي". فيقول باقر ياسين في دراسته لحياة النوّاب وشعره: "لقد كان بإمكانه أن يصل إلى نفس الهدف التحريضي دون الدخول والتورط في سلسلة الشتائم والكلمات النابية والتعابير القاسية ودون أن يكون بحاجة للغوص بتفاصيل ما جرى في غرفتها"[17] وهنا ربما جاء قول النوّاب بمثابة ردٍّ على من يحمل هذا الرأي المنتقد، في تقديمه لمجموعة قصائد كان يريد أن يلقيها: "اغفروا لي حزني وخمري، وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه"[18].

نعم كان أسلوب النوّاب في مهاجمة الحكام، وتوصيفهم، وفي الشعر السياسي عامة، فجّاً صارخاً مباشرا، فهو في حياته لم يمتدح حاكماً بما ليس فيه، وبقي ثابتاً على مواقفه رغم كل شيء. هذه الجرأة في استخدام الألفاظ “النابية” لا بدّ أن تعبّر عن جانب من حياة القهر والظلم التي تعيشها فلسطين والشعوب العربية. وهو يشرح ضرورة الوعي بالتعبير عن كافة أشكال الحياة، وذلك في مقابلة له حين يقول: "إنّه في مواجهتنا لعالم الحلم والطموح ثمّة عالم قمىء ووسخ ونعانيه ولا بد من زرعه كشهادة للتاريخ، شهادة على مرحلة معينة، يعود إليها إنساننا العربي ربما بعد قرنٍ أو قرنين"[19].

"ألا أملك حقًّاً من حقوق النشر والتوزيع للنيران مجانا"[20]

لا يملك الفدائي حقوقاً في الأنطمة العربية، وكذلك مظفّر النوّاب. لم يكن فدائياً بالكلمة فحسب بل كانت له مشاركات وضع فيها دمه على كفه، إلا أنّه في كتابة الشعر لم يكن له حقّ النشر، ولم يكن للنشر إذا حدث بطريقة ما، حقّ التوزيع.

عاشت قصائده مثله حياة التغريب والترحيل. كانت قصائده تُسجّل على شرائط صوتية، وتُهرّب بين الشعوب وعبر حدود الدول

إذا ما بحثنا فعلاً عن دواوينه وكتبه، سنجد إصدارات بسيطة، وأعمالاً كاملة له صدرت في لندن، بينما عاشت قصائده مثله حياة التغريب والترحيل. لقد كانت قصائده تُسجّل على شرائط صوتية، وتُهرّب بين الشعوب وعبر حدود الدول. مثل مظفّر النوّاب، كان شعره يؤرق راحة الطغاة، ويفتح أذهان الشعوب على حقّهم في التمرد، لذلك وضعوها في حصار "ممنوع من النشر".

"عند الموت يكون الشاعر وحده"[21]

هذه المرة لم يكن شاعرنا وحده، خرجت الجموع المهيبة في بغداد لتشييعه. كان العشرون من أيار/مايو 2022 حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة، بعد أن تفتّحت أعين الشعوب بكلماته وصرخاته وغضبه وثورته. ولأنّه مظفّر الذي تسلل عميقاً في النفوس العربية رغم كل الحصار، ولأنّه بنى فيها أعمدة دائمة للثورة والرفض، كان هتاف الجموع في التشييع “مظفّر للشعب مو للحرامية”، وكما كانت كلماته تُرمى سهاماً في صدور الفاسدين، رمى المشيّعون الأحذية والحجارة على موكب مسؤول أبوْا أن يودّع مظفّر معهم، مثلهم!

مظفّر مات، ولن يرحل. جاذب الضوء والمنجذب له، فَرَد مساحات لامتناهية في النفوس والعقول والوعي العربي، مساحات حفر فيها حضوراً ساطعاً وإقامةً أبدية.

 

 

نُشر في موقع "صمود" بتاريخ 28 أيار 2022

صمود - أيّها الغريب تمهّل.. هذا آخر عهدك بالرحيل! (somoud.com.ps)

 

 

المراجع

[1] . ياسين, باقر. (1988). مظفر النواب: حياته وشعره. ص. 15

[2] . الشطر الذي اكمله مظفر النواب حين كان في الصف الابتدائي الثالث بطلب من الاستاذ الذي أعطاه الشطر الأول "قضينا ليلة في حفل عرس"، فأدهش أستاذه والمدرسة كلها حينها، وكان بداية اكتشاف موهبته الفذة، ورد في كتاب باقر ياسين (1988) "مظفر النواب: حياته وشعره"، ص. 21.

[3] . ياسين, باقر. (1988). مصدر سابق. ص. 15

[4]. الخيّر، هاني (معدّ). (2004). مظفر النواب: شاعر المعارضة السياسية والغضب القومي. ص. 41.

[5] . من مقابلة سنان أنطون مع مظفر النواب في مجلة الدراسات العربية (1996).

[6]. من قصيدة وتريات ليلية، الحركة الثانية. وردت في كتاب مظفر النواب، حياته ووشعره لباقر ياسين، ص.25.

[7] . ياسين، باقر. (1988). مصدر سابق. ص. 9.

[8] من حوار سنان أنطون مع مظفّر النوّاب في «مجلة الدراسات العربية» (العدد ٢، خريف ١٩٩٦، ص. ٣-٢٦)

[9] . من قصيدة وتريات ليلية/الحركة الثانية. مصدر سابق. ص. 256-257.

[10] . ياسين، باقر. (1988)، مصدر سابق.

[11] . من قصيدة مظفر النواب "للريل وحمد" التي ورد مقطع منها في كتاب علي جعفر العلاق "قبيلة من الأنهار: الذات، الآخر، النص"، ص. 148.

[12] . العلاق، علي جعفر. (2008). قبيلة من الأنهار: الذات، الآخر، النص. ص. 149.

[13] . من حوار مع الشاعر مظفر النواب، أجرته الأديبة حميدة نعنع ونُشر لأول مرة في مجلة الكفاح العربي بتاريخ 23/1/1984، وورد نص الحوار في كتاب هاني الخير (مصدر سابق)، ص. 40.