نسخته الجميلة
نسخته الجميلة*
" ربما لم يطمع المرء
في الحب بقدر رغبته في أن يفهمه احد "
جورج اورويل
التقينا، بلقاء مدبّر
من قبل أحد المعارف، في مطعم "سما" في خلدة. وصلت في الموعد المحدد حوالي الساعة الخامسة
عصراً. تلفتّ في الصالة الخارجية، لأراها جالسة على طاولة في الزاوية قرب شجرة
زيتون، عرفتها مباشرة. كانت تشبه صورها كثيراً بوجهها المدوّر والغمازتين المزورعتين
على وجنتيها المتوردتين، كانت تضع يدها على خدها وتتأمل فنجان القهوة أمامها.
هو نفسه فنجان
القهوة، رأيته بصورة منذ دقائق على حالتها "Story" على الإنستغرام وأنا أتفحّص
هاتفي في زحمة السير على الأوتوتسراد. فهي كثيرة التفاعل على مواقع التواصل
الاجتماعي، وعلى ما أظنّ أنها لا تحتسي فنجان قهوة دون أن توثّقه بصورة مرفقة
بالزمان والمكان على صفحتها، عدا عن أنها لا تزور مكان جديد أو تأكل طعامًا مميزًا،
أو تلفتها عبارة في كتاب أو حتّى تمرّ بجانب منظر خلاب دون أن تلتقط صورة تعبّر
فيها عن حالتها بجملٍ قصيرة كـ "ما في أطيب من هيك" تعليقًا على طبق
ستيك بالفطر أو " شايف البحر شو كبير" تعليقًا على منظر البحر عند
المغيب. ويكفي أن تتفقدوا حالتها على الإنستغرام لتعرفوا أين هي في هذه اللحظة
وماذا تفعل. وكأنه يحق لِجميع أصدقائها الخمسة آلاف في هذا العالم الافتراضي بمعرفة
كلّ شي عنها.
لا أتذكر اليوم الذي أضافتني فيه إلى لائحة هؤلاء المتابعين،
ولكن لوجود صديق مقرّب مني مشترك بيننا لم أتردد بقبول طلب الصداقة. وبعدها لا
أدري كيف أصبحت أنتظر تفاعلها، أراقبها من بعيد حتّى بتُّ أعلم أن البنفسجيّ هو
لونها المفضل والقهوة شريكة صباحاتها، وأنها تحبّ فصل الشتاء والمطر والرعد، وأشياء
كثيرة أخرى. أصبحت أعرفها جيداً .
ويا ليت اليوم كان
ماطرًا فقط، لكان من أيامنا المفضلة. فأنا أيضًا أنتظر فصل الشتاء، لكنه لم يأتِ حتى
الآن، لا أعلم السبب.
كنت أراقبها بصمت،
حتّى تعلقّت بكل تفصيل من تفاصيل حياتها. ولم أكن أمتلك شيئاً مثيراً للدهشة لأتحدث
به معها. فانتظرت. إلى أن استفزّتني يوماً بمنشور تنتقد فيه الرواية الجديدة "ما
بعد الأشواق" للكاتبة جيهان حمود، فبادرت بالتعليق على رأيها على الخاص:
" هاي الرواية بالذات أخدتني
على عالم ثاني، أحداثها كتير واقعية ونهايتها صادمة "
وانتظرت بترقّب ردّها
لرسالتي الأولى .
وما كانت إلّا ثوان،
وومض هاتفي الجوال في إشارة إلى ردّها:
" هيدا رأيك والقراءة
ذوق "
وهذا كان أوّل حديث
بيننا.
بعدها توالت الأحاديث
العامة، عن الكتب والروايات، عن شغفنا المشترك للطعام وتذوق ما هو جديد، عن
تصاميمها الغرافيكية فهي كانت بارعة في تحويل عبارات واقتباسات وأقوال إلى لوحات
رائعة. كنت أحاورها بشغف، حديث عام يليه حديث عام آخر من وراء الشاشة،
وفي هذه الزاوية الصغيرة
من الحياة الوهمية التي أنشأتْها لنفسها. وكنت أحدّثها بصفتي واحد من أصل خمسة
آلاف صديق، ولطالما تمنيت أن أكون الأقرب بينهم جميعاً.
منذ أسبوع تحديدًا،
تمنيت لو كانت صديقتي بجانبي، حين كنت أجلس وحدي في صالون منزلنا، أنا والكنبة
البنيّة القديمة المزخرفة باللون الذهبي، والتلفاز الضخم على شكل صندوق. بعد أن
ذهب جميع المواسين والمعزّين وعاد الصالون الكبير خالٍ من جديد، موحش وبارد جداً، وكم
أصبحت المسافة بين السقف والأرض شاسعة.
بقيت أراقب انعكاس صورتي
على شاشة التلفاز السوداء، وأدقق في ملامح وجهي التي أصبحت تشبهه كثيرًا. إلى أن
دقّ جرس المنزل، لم أكن أتوقع قدوم أحد. فالعزاء قد انتهى، ولا تجمعني بأقاربي تلك
الروابط العائليّة الوطيدة كي يعودوا لزيارتي بهذه السرعة.
رددت بيني وبين نفسي:
"مش مهم، مش رح افتح "
لكنّ الجرس لم يتوقف
عن الرنين، والزائر استمرّ بالالحاح والإزعاج. إلى أن حملت قدماي وجسدي المتعب
وتوجهت نحو الباب. كان الأستاذ غسان، محامي أبي وزميله منذ أيام الدراسة، يسند
قامته الممشوقة وجسده النحيل على الحائط جانب الباب.
بعد التحية والسلام
بادرته بالقول بتعجرف وبصوتي المبحوح:
"إستاذ غسان، فينا
نأجل موضوع الحكي بالوصية والإرث لبعدين".
" حسن القصة ما وقفت
على هيك، في شي مهم لازم تعرفه " أجابني بكلّ جديّة بصوته الخشن وهو يدخل من
الباب الخشبي الكبير. فكل شيء في المنزل أصبح كبيرًا وموحشًا. خفق قلبي للحظات من
ردّه، لكن أهناك أسوء من ما أنا فيه، أهناك أسوء من موت أبي؟
فأبي، لم يكن أبًا
عادياً، كان الأم والأب والأخت والأخ. كان الجميع في آن واحد. وكنا نتشارك كل شيء،
عدا اللحظات الجميلة، كنا نتشارك الأسرار أيضاً. كنت كلما أعود للمنزل بعد لقاء مع
فتاة، نسهر حتى الصباح ونحن نلعب "الطاولة" ونتحدث بتفاصيل اللقاء. حتّى
هو، أذكر جيداً، حين دفعته عمتي الكبيرة سهى صاحبة العلاقات الاجتماعيّة الواسعة للقاء
زميلتها في التعليم، عاد يومها إلى المنزل ولم يستطع التوقف عن الضحك وهو يقول
بسخرية وبصوته الأحب إلى قلبي:
" بدها عرس وزفة،
وتتصور عند سعيد محمد، وشهر عسل بتايلاند، وقال شو بدها كمان، أقلّ شي خمس ولاد!"
سهرنا يومها الليل
كلّه ونحن نتسامر عن لقاءه بالعروس -اللقطة- كما أطلقت عليها عمتي، لترتفع ضحكاتنا
حيث كان يردد: "بعد هالكبرة، جبّة حمرة"، وأجيبه بدوري: "نسوان آخر
زمن".
كان أستاذ غسان،
يتكلّم بكلّ محبّة عنه، كنت أعلم أنه ترك أثراً جميلاً في نفوس من حوله. فلن اتفاجأ
يوماً إن صادفت البقّال أو اللحّام أو حتّى جابي الكهرباء وهم يتكلمون عنه بحبّ
وودّ.
لكن من عبارته "في
شي مهم لازم تعرفوا"، أدركت أن كل حديثه عن الاحترام والتجليل والمحبة ما كان
إلاّ مقدمة لشيء آخر. إلى أن قال بتلبّك وهو يدير ناظريه عن وجهي،
ويعدّل نظارته السميكة:
"في حدا رح يشاركك
الورثة "
ضاق صدري، عقدت
حاجبي، بلعت ريقي، والتزمت الصمت ليكمل جملته وأنا أحاول التركيز:
"عندك أخت "
" مستحيل، كيف، ومن
وين، بييّ أنا" صرخت بحدّة وأنا أقفز من مكاني.
لم أكن أصدق ما يقول،
وكنت أحاول أن آخذ نفسًا عميقًا، إلى أن ناولني أوراقًا بين يديه، وثيقة زواج ووثيقة
ولادة وهوية شخصية، لم أحتاج أن أدقق كثيرًا لأدرك أنها هي، اسمها الأوّل، صورتها،
ملامحها.
وفي الوقت الذي أحاول
استيعاب كل ما يدور حولي، أيقظني من شرودي وهو يقول بهدوء:
" وهي بتعرفك، عن بعيد
قصدي! وناطرة لتلتقوا".
اقتربت منها، وفي
داخلي شعور متناقض لا أستطيع تفسيره، أريد لومها، لوم أبي، لوم كل البشر الذين
أخفوا عني الحقيقة. أم أريد أن أحضنها بقوّة، أشمّ فيها رائحته، لنتشارك حزننا
فقط. ألم يكن هو صديقنا المشترك على مواقع التواصل الاجتماعي، ألم تكن هي صديقتي
الافتراضية، وأنا واحد من خمسة آلاف متابع لها. لا! .. كنت أقرب من ذلك بكثير،
كانت هي أختي، وكنت أنا أخاها.
أصبحت مقابلها مباشرة،
أتأمّل ملامحها، وأنا الذي كنت أجد نفسي أُشبهه كثيرًا، رأيتها هي النسخة الجميلة
عنه. حدّقَت في عيناي طويلاً، إلى أن قالت بِودّ وبصوتها الناعم: "وأخيرًا".
*القصة خاصّة بموقع
دار- المجمّع الإبداعي
*الصورة للرسّامة
الهندية "بهافنا تشودري Bhawana Choudhary- "