القصة رقم 10
"الحب هو أن أعاتبك وتعاتبني على أصغر الأخطاء، هو أن أسامحك وأن
تسامحني على أكبر الأخطاء"
محمود درويش
كانت تنقصه واحدة.
غادر زواره في وقتٍ متأخرٍ، لم يتسنَّ له العمل هذه الليلة أيضاً
لإنهاء مجموعته القصصية، وبقي الكومبيوتر مفتوحاً على الصفحة الفارغة أمام عينيه،
كلما نظر إليه وهو جالس إلى جانبه على الشرفة، تملّكه الضيق وتحسَّر على وقته
الضائع، لم يعد يمتلك القدرة على العمل، فضلاً عن أن أفكاره قد نفذت ولم يعد لديه
ما يقوله.
أسوأ ما قد يواجهه كاتبٌ ما هو نفاذ الأفكار، وإحساسه بالخواء الذي يبدأ بإبتلاعه
من الداخل، يصبح كمن يحدق في الفراغ ويفقد الدافع للقيام بأي شيء. إستل الورقة من
أمامه ليحاول وضع عنوان للقصة الجديدة، لعلَّه يستلهم حدثاً ما، أو حتى فكرةً
صغيرةً يستطيع الإنطلاق منها.. ولكن دون أيِّ جدوى، بمحاولةٍ يائسة كتب ثلاث
كلماتٍ على رأس الصفحة في الوسط ، أشعل سيجارته نافثاً دخانها الأزرق، ثم أخذ يكرر
كمن يقرأ تعويذةً لإعادة الحياة إلى جثةٍ ما:
"القصة رقم عشرة القصة رقم عشرة القصة
رقم عشرة".
"مش ناوي تنام.. كمان بدك تسهر الليلة؟" سألته بصوتها العذب
وقد وضعت يدها بلطفٍ على كتفه ثم حضنته من الخلف، وتابعت كلامها همساً في أذنه:
"مش ملاحظ إنك صرت عايش مع اللابتوب وقصصك، وناسيني بهالأيام؟"
أخذ يدها البيضاء ودفن وجهه فيها.. إشتمها، ثم أجلسها على الكرسي
أمامه وراح يتأملها بصمت: عيناها السوداوان اللتان تنظرانه بشغفٍ من تحت أهدابها
الطويلة، وتقاسيم وجهها الطفولي الذي لطالما أزال الغمّ عن قلبه بمجرد أن تضيئه
إبتسامة شفتيها القرمزيتين، سألها بصوتٍ ضعيفٍ: "وإنت.. شو بعده مفيقك؟"
تربعت على كرسي البلاستيك، وأخذت تعبث بالأوراق الموضوعة على
الطاولة ثم سألته بمرح: "عن شو عم تكتب؟".
أيقن بأنه لن ينهي قصته الليلة، عندما كانت تشعر بأنه مشغول عنها
بأوراقه واللابتوب، كانت تحاول قدر الإمكان ان توفر له الجو المناسب. تسلل
"أبو عدنان" بذيلهِ الأغبر، ثم جلس في حضنها وأخذ يلعق فروه الرمادي،
نظر إلى القط وهو يربت برفقٍ بذيلِهِ على الكرسي، ثم أجابها بشرود: "ما عارف
إكتب شي راسي مقفل".
أخذت تمسح فرو القط الرصاصي والأسود، ثم شاكسته بلطف: "شو
رأيك تكتب عن أبو عدنان؟"
ضحك ساخراً من الفكرة وأطفأ سيجارته ثم أجابها ممازحاً: "والله
فكرة، بكتب كيف حبّ بسينة سيامية وما عبرته نظراً للفوارق الطبقية بيناتهن".
نفضت يديها من الوبر العالق بهما، وسألته بإحتجاج وبلهجة أقرب للمزاح:
"أنت على طول هيك؟ حتى البسين بدك تعمل منه قضية وتتفلسف، وتستعمل مصطلحات
متل : الفوارق الطبقية، وحدة الصف، سيكولوجيا الجماهير، ولك هيدا بسين بسين بذنب،
كل همه الأكل والشرب واللعب مش مرتبط بالمؤامرة الكبرى لي عم تحاك ضد الطبقة
الوسطى بهدف إفقار الشعوب الممانعة لتحويل دولها لجمهوريات من الموز".
رفع حاجبيه من الدهشة، تعليقها على التعقيد الذي يعاني منه في طريقة
تفكيره وكتاباته كان لاذعاً، لكنه ساخراً بما يكفي كي يصف الواقع، حاول مراراً التخلص من هذه
العادة إلا أنه لم ينجح، كان يمتلك الموهبة لكنه الوحيد القادر على تفسير ما
يكتبه، ما الفائدة إذاً.. لا شيء.
لملم أوراقه عن الطاولة، وأغلق شاشة اللابتوب بملل وقد أصابه القنوط،
أصبح عاجزاً حتى عن متابعة الحديث، داعبت أسفل رقبته كما تحنو الأم على طفلها ثم
خاطبته برفقٍ وتودد: "روق كل إنسان منا عنده قصص بحياته، نحنا عبارة عن قصص
قصيرة ومجمعة، نقي قصة منهن وكتبها".
لم يجبها كان فعلاً طفولياً بردات فعله، لم تعطه إسم: "فيلسوفي
الصغير" عن عبث أحبها بشكلٍ جنوني، كقصص الحب التي نسمع عنها أو نشاهدها في
الأفلام، كم من مرة إتصل بها صباحاً بعد خروجه من المنزل إلى العمل، كي يخبرها فقط
بأنه إشتم رائحة عطرها دون أي مناسبة.
كانت شريكة المنزل وحبيبته، وصديقته وأمانه الذي يهرب إليه، أما
أفكاره فلم تستطع يوماً أن تفهمها، ربما لم تكن الأفكار على قدر ما كانت طريقة
التعبير والمصطلحات التي يستعملها، ولم تكن الوحيدة التي تعاني من هذا، كل الذين
عرفوه قالوا له نفس الكلام بطريقةٍ أو بأخرى، نزل أبو عدنان وأخذ يلاحق ذبابة شبعة
تطير بثقلٍ على بلاط الشرفة كما لو أن الحديث الدائر ليس ضمن دائرة إهتماماته،
حاولت مجدداً دفعه للكلام واستفزته مشجعة:
"وين اللي بيقدر إنه ينتهي من رواية بليلة وحدة بحال عجبته، لو
بقرا على قد ما بتقرا كنت بخلص مجموعة قصصية كاملة خلال أسبوع يلا شد الهمة".
نظر إليها بإستغراب، فبدل أن تعطيه الدليل بأنه قادر على الكتابة،
أظهرت له مدى عجزه عن إستحضار فكرةً واحدة، رغم كل الذي قرأه خلال ثلاثين عاماً،
لم تيأس من محاولاتها وسألته بإصرار: "طيب ليك شو رأيك تكتب عن النحس؟"
التقط قلمه عن الطاولة كما لو أنه أراد أن يتحضر للكتابة، ثم أجابها
بتردد: "النحس؟ كيف يعني ما فهمت؟"
نظرت في عينيه العسليتين وأكملت بحماسةٍ وحيوية: "يعني لمن قطعتك
السيارة بالجنوب وطلبت البلاطة لتنزلها عبيروت، ومن بعد ما حملتوها ومشيتوا، تعطلت
البلاطة وإضطريتوا تنطروا تلات ساعات بعد نص الليل لتجي البلاطة التانية".
أصيب بالخيبة مجدداً من كلامها، فأعاد القلم إلى مكانه على الطاولة
وعاتبها قائلاً: "بدك ياني أكتب عن النحس، أو عن الهبل لي عايشه إني لو بروح
عالبحر بنشّفه؟"
لطالما عانى من هذا الأمر، لكنه يتجنب الكلام عنه، كلما أقدم على عمل
تتعرقل أموره ولا يزيده ذلك إلا عزماً، ليثبت لنفسه والآخرين، بأن الاحداث تجري
بأسبابها لا بالنحس والتطير، وها هو الان انهى كل عمله ولم يبقى له إلا قصته العاشرة،
وهو عاجزٌ عن الانتهاء منها لأتفه الأسباب.
تعب من الكلام والنقاش، نهض وأغلق ستائر الشرفة، ثم دخل ليحضِّر نفسه
للنوم، تبعته لم تكلّ من المحاولة لاقناعه بوجود الأفكار، وان كل ما عليه هو تذكر
تفاصيل حياته وتجميعها كالأحجية قطعةً قطعة، ثم إخراجها للناس بصورة جميلة مع
قليلٍ من الذكاء. وقف كي ينظف أسنانه فوقفت خلفه متابعةً نصائحها وتوددها له،
كعادتها عندما تراه متوتراً، أنهى تنظيف أسنانه رفع رأسه ليرى شعره المشعث وعيونه
المكحلة بالسواد، أما هي فيبدو أنها ملَّت من الكلام، أطفأ الضوء وأغلق باب
الحمام، وتوجه إلى سريره، نظر إلى صورتها الموضوعة قرب السرير معاتباً: "حتى
بعد طلاقنا عم هلوس بصورتك؟"
"ما عم تفارقيني".
*القصة خاصّة بموقع دار-
المجمّع الإبداعي
*اللوحة للرسّامة الإيطالية "سيلفيا باليسّيرو" المعروفة بـ
Agnes Cecile