لصٌ موسميّ
أحبّ المشمش. وأنتظر موسمه في كلّ صيف من كلّ عام بشوق.
أتناوله بكمّيات كبيرة بمقدار صحن كبير كلّ يوم، كتعويض عن الحرمان منه لأشهر
عديدة، فإنّ موسم فاكهة المشمش كما تعلمون وللأسف قصير الأمد. حتّى أنّ أخوتي قد
أسموني "البوبّو" لِكثرة حبّي للمشمش، منذ ذلك اليوم الّذي حدث للبوبّو
ما لم يكُن في الحسبان.
أذكر في صغري أنّني
كنت أرى رجلًا مسنًا غريبًا عن ضيعتنا "كفر عامل" يمرّ بشوارعها الضيّقة
وبساتينها الشاسعة، كان يظهر شعره الأبيض المتلبّد من تحت قلنسوته الصوفيّة
السوداء الّتي لم أذكر أنني قد رأيته بدونها، كسترته الخضراء الجلدية الّتي لا تفارقه صيفًا شتاءً
كأنّها جلده. أمّا جزمته النايلون السوداء الّتي تصل إلى ركبتيه كانت تلفتني
كثيرًا. إلى هذا اليوم أُفضّل انتعال واحدة مثلها عند نزولي إلى الحقل لأكون
مطمئنة، كأنّها عازل أو مدرّعة ضد الحشرات والأفاعي الّتي أتوقع دائمًا أن أصادفها
في طريقي الوعر.. لكنّ هذا لم يحدث حتى الآن.
كان هذا الرجل يحمل على ظهره أكياسًا من الخَيش لطالما تحرّكت وأصدرت صوتًا
كالنقنقة. كنت أحسبها أكياسًا مسحورة! يا لغبائي فقد كان يجمع بداخلها الدجاج..
هههه. وفي اليد الأخرى كان يحمل دلوًا حديدي يجمع به البيض البلدي. كان يشتري
البيض والدجاج من ضيعتنا بسعرٍ "لقطة" ليبيعهم بسعرٍ أعلى في ضيعته
"حمرا"، فهي تشتهر بإحمرار طرقاتها لكثرة شجيرات السمّاق على جوانبها،
لكنّها كانت تفتقر بسبب صغر مساحتها إلى المزارع والبساتين -الّتي تكثر في بلدتنا.
في عصر أحد الأيام التي زار بها هذا الرجل ضيعتنا، كنت واقفةً
على شرفة دارنا المطلّ على الشارع ألعب "الإكس" لوحدي. حتى مرّ ذلك
الرجل وألقى التحيّة على أبي "حيدر" الّذي كان يروي الزرع والشجر في
حقلنا الصغير. عندها سألت أبي الّذي لا يملّ من أسئلتي، ويجيبني بكل رحابة صدر
وابتسامة على الرّغم من طبعه الحاد، بصوتي الطفولي ولهجتي الجنوبية: "بيّي
هِيدا الزلمي بضل شوفه هَونِي شو إسمو؟" وأضفت بنبرة فضول: "وين بيتو
يعني ؟ مِن عِنا هُوِّي؟". ضحِك أبي، لكن سرعان ما تغيّرت ملامحه إلى الجادّة
وأجابني وهو يأخذ "نبريش" المياه بعيدًا بصوته الغليظ ونبرة جافّة:
"إسمو البوبّو. بس أوعك تعيطيلو هيك، قوليله عمّو بس". افترّت ابتسامة
من شفتي، وضعت يدي على فمي وانتظرت أبي ليبتعد أكثر ثمّ انفجرتُ ضاحكةً:
"هاها.. يوووه.. بوبّو!!" تساءلت في نفسي عن معنى هذا الاسم: "يعني
مِتل اسم الألعاب لِعِندي أو البوبّي –baby- لِبِبَطِن
خالتو سعاد!". علمتُ لاحقًا أن أمّه المرحومة كانوا ينادونها بـ
"إِم البوبّو"، قد كانت تجمع البيض من القرى مثله، أيّ أنّها أورثته هذه
المهنة. ومن يدري.. لعلّ البوبّو مشتقة من كلمة "البيض"!
كان البوبّو يتردد يومين في الأسبوع طوال السنة ما عدا في فصل
الصيف من كلّ عام فإنّه لسبب كُنّا نجهله، يتردد يومًا بعد يوم وتكثر زياراته إلى
بستان جارنا عمّو "أبو حسيب" المزارع الأشطر في الضيعة والمعروف بطيبته
وكرمه وتعلّقه بأرضه. كان يقضي معظم أوقاته في البستان يدلل مزروعاته كأنّهم
صغاره.. لكنّه كان شديد التعلّق بشجرة المشمش والّتي تتوسّط بستانه، أطلق عليها
اسم "لوزان" فهي من نوع المشمش اللوزي. يحزن إذا تعرضت لمرض ويفرح إذا
شُفيَت، ويتعذّب في أوقات التسميد والتشحيل، حتى يحظى بموسم مثمر وناجح.
يبدو أنّ البوبّو أيضًا كان يتعذّب كثيرًا عندما يقف بقامته القصيرة تحت
"لوزان" الّتي كان يزيد طولها عن ثلاثة أمتار، وتكثر فروعها. إلّا أنّ
في ذلك العام كانت كثيرة الثمار.. وقف البوبّو مذهولًا أمامها، فتح عينيه على
وسعهما وقال فرِحًا بما رأى، بصوته الرفيع المبحوح وهو يضع أكياس الخيش والدلو
أرضًا: "هَجْماني ما شاء الله.. كِل حَبِّة قدّ البيضة لِيك لِيك.. بسم
الله" وبدأ يقطف حبّاتها من الأغصان المتدليّة التي تطالها يديه
الصغيرتين.. وما إن انتهى من قطف الأغصان القريبة حتى "عربش" على جذعها
ووقف على إحدى فروعها ليكمل قطافه.. واضعًا حبّات المشمش في إحدى أكياس الخيش. لم
يكن يتوقف البوبّو عن القطاف حتى يأتيه العم "أبو حسيب". وفي كل مرّة
كان يعتذر البوبّو منه ويتذرّع بحجة أن ابنته حامل وتتوحّم على
"حبّة" مشمش.
لكن في ذلك العالم والمفترض أن يكون وحام ابنته السادس على
التوالي.. ترك عمّو أبو حسيب البوبّو يقطف لوزانا براحته، وأخذ يراقبه من بعيد،
حتى وصل إلى أعلاها. حينها قرر صاحب البستان أن يضع حدًا لكذب لصّ المشمش ولو أنّ
فراقه للوزانا سيفطر قلبه، لكنّه حسم قراره. أحضر منشارًا حادًا ونزل مسرعًا إلى
البستان متوجهًا نحو المشمشة مباشرةً. وضع المنشار على أسفل الفَرع الّذي يقف
البوبّو على أعلاه وبدأ بنشره.. صرَخ البوبّو مترجيًا عمّو أبو حسيب أن يتوقف.. لم
يترك كلمة ترجّي وتوسّل إلّا وقالها.. من دون جدوى. أخرسه عمّو قائلًا بصوته الخشن
وبنبرة عصبية حادة: "هلكِت سمايي.. إذا زلمي نُط لشوف."
لم يجرؤ البوبّو على القفز فقد كان ضعيفًا جبانًا. تشقق الفرع
من ثِقل البوبّو ثمّ تهاوى على الأرض فوقعَ صارخا متألّما..
رمى أبا حسيب المنشار أرضًا، ماسحًا العرق عن جبينه بكف يده
الكبير.. نظر إلى البوبّو المطروح أرضًا ثم قال له بنبرة من شفى غليله: "يلا
لشوف بتِنْقِبِر بتاخِذْهِي وبِتْفِل مِن هَوْني.. خلّيها تِتوحّم عِندِك".
*القصة خاصّة بموقع دار- المجمّع
الإبداعي، 2019
*اللوحة للرسّام الهولندي فينسنت فان غوخ - vincent van Gogh