يمكن سنة، يمكن أكتر
يمكن سنة، يمكن أكتر*
كنت أسمع دقات قلبي في أذنيي كطبل يقرع، "الله لا يوفقك يا أم محمد
صار عمرك خمسة وخمسين سنة وما بطلت تكوني ثرثارة، ما عندك رجّال ولا ولاد بتجي
بتتسلي فيّ، يلعن الساعة يلي قلتلك فيها مبارح بالسهرة انزلي اشربي قهوة، يييه على
عيونك شو مخيلتك خصبة وواسعة، حاضرة فيلم رعب ونازلة تمثليه عندي"
أم محمد جارتنا نسينا اسمها الأصلي، تزوجت منذ سبع سنوات ولم ترزق بولد رغم
محاولتها هي وزوجها عدة مرات، لكن لم توفق وبعد سنوات قليلة على زواجها توفي زوجها
وبقيت وحدها.
كنت أكلم نفسي وأشجعها لمدة عشرة
دقائق قبل خروجي من السيارة التي ركنتها في الموقف الوحيد قرب المنزل، حيث يبعد
تقريباً مئة خطوة عن منزلنا، في منطقة البرج.
ناطوره مريب لا يبتسم "للرغيف السخن، بيضل عابس وقميصه ميلة من تحت
البنطلون وميلة من فوق"، يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، شعره
"منكوش" وكنا دائماً في الحي نعتقده "إمّا حشاش أو سكرجي" من
منظره هذا، صوته أجشّ كالمجرشة لكن للأمانة لم يقترب يوماً من أحدٍ من مشتركي
الموقف، حين كنا نركن السيارات أو نخرجها.
كلما كنت أريد دفع الإيجار الشهري أرسله مع ناطور المبنى الذي نقطن فيه،
أبو طلال وما أدراكم من هو أبو طلال "أبو نص لسان" لا يدعك تمر من جانبه
في الخروج والعودة إلى المبنى دون أن يستوقفك ويبدأ بطرح أسئلته التي لا تنتهي،
أسئلته سخيفة، من شدة سخافتها تشعر كأنه يحضّر لك ملف عنك وعن عائلتك.
فتحت باب السيارة بوجل والتفت حولي لأطمئّن من خلوّ الموقف من أي شخص غريب
أو أي حركة مريبة، ونزلت؛
ما أن أقفلت باب السيارة وضغطت على جهاز الإنذار حتى قفزت من خوفي من شدة
صوته الذي لم انتبه له من قبل، وفي نفس الوقت صادف مرور قطة سوداء، كنت أحاول أن
أطمئن نفسي مجدداً وأنا أتكلم
"هييييء، الله لا يوفقك يا أم محمد سكّوا ركابي لأن قطعت من قدامي
البسينة، بعمري ما خفت من بسينات الحيّ، ولك شو إجاني منك".
وبت أحدث نفسي وأحثها على المضي بالذهاب ناحية المنزل، "المهم إن شاء
الله ما يطلع بوجي ناطور الموقف، يلعن الساعة.. انقطع نَفَسي، مين سحب الهوا!! مش
قادرة أتنفس، كربجوا إجريّ".
أحسّ في هذا الوقت بشيء دافئ يسيل على وجهي، مسحته بيدي وإذ بها دموعي تجري
دون أن أنتبه، بحثت في حقيبتي التي كادت أن تقع من يدي عن هاتفي لأضيئه وأنير
طريقي وأطمئن نفسي.
"أخيراً لقيته" كبست على زرّ الإضاءة ومشيت، تسألون "ليه ما
في كهربا؟!!! ولا موتور؟!!!" أجيبكم ب بلى في كهرباء أربعٌ وعشرون على أربعٍ
وعشرين، ولماذا كهرباء الإشتراك غائبة؟!!! أجيبكم بان صاحب المولِّد يريحه من
العمل لأن الكهرباء لا تنقطع مطلقاً ونحن في رغدٍ من العيش".
فزعت من خاطرة جالت في رأسي "يا الله معقول يطلع ناطور الموقف هلق هو
ماسك ساطور بإيدو، بيهجم عليّ وبيقطعني، وليّ كيف بدي أهرب منه!! معقول بيتحول
بالليل لكأئن متوحش!! معقول عاضو كلب وصار مستذئب، لِكْ يا الله عالهبل!! شو عم
بحكي مع حالي!!، الله يلعن الساعة يلي قلتلك فيها انزلي اشربي قهوة يا أم
محمد"
كنت أكلم نفسي بصوتٍ خفيض وأحاول جعله متماسكاً كي لا يبدو عليّ الهلع
أمامه، "لا أكيد هو مهذب وآدمي، أنا متأكدة منه بس شكله غريب شوي مش
أكتر"
ما لي لا أتحرك من مكاني وانا أمشي، أين ذهب البيت، أين أنا!! سيطر الخوف
على كياني وكدت انفجر بكاءً ليس من الخطر المحدق بي، بل من أفكاري "الخزعبلية"
"لح يطفي التلفون" صرخت بداخلي بقوة تهدم عشرة أبينة معاً،
"كل شي ولا يطفي،إن شاء الله أوصل عالبيت الضايع قبل ما يطفي، معقول يطفي
التلفون هلق ويهجم عليّ ناطور الموقف ويستفيد من العتمة؟!! معقول يخطفني
ويخدرني!!!"
ضربت بيدي على وجهي وصرخت من الوجع والخوف في آن، وبدأت أركض والبيت يركض
أمامي "ولِكْ خليك مطرحك لأوصل"، همست لمنزلي من شدة الخوف.
وما أن أقتربت من أول الزقاق المؤدي إلى بيتنا أحسستُ بأحدهم يركض خلفي،
أسرع أكثر وأنا أركض وأصرخ "يا ماما، يا بابا، يا بابا" أصرخ من صميم
قلبي والصوت يخرج من أمّ راسي، ولا أكاد أصل إلى مدخل المبنى لأشعر بيده على كتفي،
"وبِصْرُخ آخر صوت".
"منال، منال.. شمموها بصلة، جيبوا السبيرتو، قرصوها بدينتها" هذا
ما سمعت أم محمد تصرخ به على الذين تجمعوا حولي مذهولين من أهل المبنى -وأكيد أبو
طلال بينهم- في مدخل البناء جراء صرختي المدوية، حين فتحتت عينيّ بصعوبة.
بدا عليها الخوف والارتباك ولا تدري ماذا تفعل لأستيقظ، لتعاجلني بسؤالها
"إلك زمان عم تركضي؟!!"
تنهدت وتنفست الصعداء وأنا أرى وجهها فأجبتها بصوتٍ لاهث "الله لا
يوفقك، إلي سنة"
*نشرت
هذه القصة في المجموعة القصصيّة "دافنشي لا يجيد الكتابة".
*اللوحة
للرسّام الألماني "أوتو ديكس – Otto Dix"