إيدز البحر الأبيض المتوسط

إيدز البحر الأبيض المتوسط*

"اختلطت عليَّ الأمور كأن البارحة بعيدة مثل الطفولة"

حنا مينه – الياطر

التقطت الخاتم الموضوع أمامي على الطاولة، الإطار الأسود المحيط بحجر الأماتيست[1] ولون المعدن الفضيّ، كانا بمثابة الدعوة لي لوضعه في إصبعي والسفر عبر الزمن.
كانت الوجهة زمنًا وتاريخًا محددين، الرابع من تموز من العام 1992، مدخل المنزل كما رسمته الذكرى في مخيّلتي: حوضان من زهور الغاردينيا المبنيان من حجرٍ صخريّ رماديّ اللون يحيطان ببوّابةٍ خشبيةٍ عتيقةٍ استحال لونها للأسود، وحائطٍ مرتفعٍ من حجر الباطون المنخور بفعل الشمس والشتاء نتيجة طقس عانوت في إقليم الخروب، أزهار الياسمين وأغصانها تدلّت عليه فسترته ولم يبقَ منه إلّا بعض الفسحات الصغيرة التي تشي بلون أحجاره العتيقة.
وضعت يدي على "المسكة" الخضراء فانقبضت معدتي وتسارعت دقات قلبي، دفعت الباب ودخلت إلى عالمٍ لم أعد أراه إلّا في الأحلام. الذكريات، الروائح والألوان، عطر الغاردينيا والياسمين يستقبل الزوار كعادته -ولكنني لم أكن زائرًا- أرجوحتي المعلّقة على الجوزة العتيقة ما زالت تحنّ إليّ كما أحنّ لها دائمًا. أُصُص أمّي الموزّعة بصفوفٍ طويلةٍ في جنبات الدار، ممتلئة بالورود من قرنفلٍ، وخبيزة، وجوريّ -كانت ثروتها- المنخل المثبّت على نافذة غرفة الجلوس بقطعٍ صغيرة من الجلد والمسامير، غطاء البئر الحديديّ و"السْطَيلة" الموضوعة عليه، كلّها كانت هنا كما تركتها منذ خمسةٍ وعشرين عامًا. على يساري شجرة الصنوبر التي فاق عمرها الخمسين شتاءً، روَت لي والدتي بأنّها كانت موجودةً في الدار منذ أن سكنّاه بعد هجرتنا من الشريط الحدوديّ، من بنت جبيل تحديدًا في أواخر العام 78، وكانت حاملًا بي وقتئذٍ، وولدتُ في المنزل نفسه في نيسان من العام 79.

التفتّ ناحية مصطبة الباطون على يميني، وكما توقعت، كنت ممددًا على الطراحة تحت خيمة البلان. مشاعرٌ مختلطةٌ بين الفرح والحنين، إحساسٌ بالأبوّة -غريبةٌ هي المشاعر الإنسانية عندما تكون بهذا القرب- شعري أجعد ووجهي مغطى بالنمش، مرتديًا "تيشرتًا" زرقاء اللون، و"شورتًا" أحمر عليه رقعةُ الـ "شيكاغو بولز"، حاملًا الكتاب بيدي كالعادة (كيف كاين إلبس هيك شورت؟ متل الشروال مبيِّن).

ترددت قبل أن أصبّح على نفسي بصوتٍ ضخم: صباح الخير.
رفعت رأسي عن الكتاب ورددتُ ببحةٍ خفيفةٍ: صباح النور.
طويت رأس الورقة وأغلقت الكتاب (كان قصة دون كيشوت لـِميغيل دي سيرفانتس).
دائمًا كانت زيارة ابن عمي عليّ الذي يكبرني بثلاث سنواتٍ كفيلةً بأن تقيمَني من فراش المرض رغم الأوجاع، كان الشخص الأنسب الذي من الممكن أن أتجسّد به، أضخم مني وأكتافه أعرض، دائرةٌ من الأمان بالنسبة إليّ بابتسامته الهادئة.

جلست على المصطبة أفتّت أوراق البلان المتساقطة من الخيمة بأصابعي، كان التعب ظاهرًا عليَّ جرّاء الحرارة والوجع، ولوني أقرب للصّفرة. التقطت الكتاب من أمامي، وخاطبت نفسي بلهجةٍ ملولة: "كمان دون كيشوت؟ هيدي رابع مرّة بتقرا فيها هيدي الرواية". أرجعت ظهري على المسند ورددت بضحكةٍ خفيفةٍ: "ما قدرت إطلع عالتتخيتة لَجيب كتاب جديد، وكل القصص لي بالمكتبة صرت قاريهن".
تفحّصت غلاف الكتاب المرسوم عليه فارسٌ طويلٌ ونحيل من القرون الوسطى، يمتطي فرسًا عظامها ظاهرةٌ من الكِبَر والضعف، فضحِكت ورددتُ عليَّ بسخريةٍ: "بس يا خوفي نضبّك شي نهار بعيد عن الضيعة بعشرة كيلو متر، إنت وراكب عحصان خشبي ورايح تقاتل الطواحين".
سحبت الكتاب من يدي ورميته على المسند، وأجبت بعصبيةٍ: "جايي لتطلّ عليي أو لَتتمسخر؟ إسم الله عليك، صاير متل شَب البستوني".
نفضت أوراق البلان من يدي وأجبت بسرعةٍ: "لا جايي نرفزك ولا عصبك، بس سمعت مبارح إم غسان جارة أهلي، عم تقروِش حكي عن ابنها الموجود بفرنسا، إنه بيصير معه متل ما بيصير معك، كل ما ياكل كريما بيمرض وبينام بالبيت تلات إيام". قطّبت حاجبيَّ وقاطعت نفسي بدهشةٍ: "يعني كل واحد بياكل كريما وبيتسمم بيصير متلي؟ صرلي سبع سنين بروح عند الحكما وكل واحد بيحكي شكل، تقول بيشتغلوا بياطرة، هودي خرجن يحكموا حمير وبغال مش بني آدمين".
لم يكن باستطاعتي إضاعة الوقت أكثر من ذلك، نهضت للمغادرة وأجبت بسرعةٍ: "كنت جايي خبّر مرت عمي، بس ما لقيتها، إم غسان عم تقول إنه اسمه كولشيسين[2]، تذكر الاسم منيح وخبّرها عنه".
جلستُ بصعوبةٍ والتفتُّ باستغرابٍ ناحية الباب، لم أفهم الاسم جيدًا، فصحتُ بصوتٍ مكتومٍ من الحمّى: "هااااا، حمّى شوووو؟ الشرق الأوسط!!!! حمّى لِتسلقك إلهي عند هالصبح".
أخذت الكتاب وفتحته من جديد وأنا أغمغم بكلامٍ غير مفهوم.

خرجت من المنزل ولبست الخاتم من جديد، كانت الوجهة زمنًا مختلفًا، لا بد من أن أختصر سنينًا من الوجع، وتشخيصاتٍ خاطئةٍ من الأطباء، بعضهم "دكّنجي" والبعض الآخر من الجهلة، وقسم ثالث أقصى ما يصل إليه من حدود المعرفة: أدوية مضادات الالتهاب ومطهرات المعدة، وكلّ أنواع المسكنات التي كانت تبقي سقف الغرفة في حالةٍ دائمةٍ من الدوران. أمّا الحقير الذي قال لوالدتي: "ابنك معه إيدز"، فهذا من سُفالة الأصناف الذين التقيتهم في حياتي؛ أذكر يومها بكاءها المفجع، أمام الخبر عن مرضٍ يعني الموت بالنسبة إلى ولدها.

الأمر ليس ببساطةٍ أكلة كريما. مرضٌ وراثيٌّ يصيب الجهاز المناعي ويؤدي إلى ارتفاع معدل كريات الدم البيضاء، له عوارض عديدة لكنه لم يكن بالمرض المعروف في بلادنا، رغم بساطة علاجه.

التاسعُ من آب من العام 1994، عدت إلى المكان نفسه في الساعة السادسة تمامًا، والشخصية نفسها. في هذا الوقت من الصيف كنت أتحضّر يوميًّا للنزول إلى الملعب الموجود في الوادي أسفل المنزل، لم يكن ملعبًا بالمعنى الفعليّ، قطعةٌ صغيرةٌ من الأرض نظفناها من الحشائش والصخور، ووضعنا على طرفها صخرتين كبيرتين كبديلٍ عن المرمى. نظرت إلى نفسي وأنا أربط شريط الحذاء الرياضي الأسود "الكلل" (كنّا نسمّيه أبو ريحة)، مرتديًا بلوزةً مقلّمةً بالأبيض والأسود، و"شورتًا" أبيض.
صحتي كانت أفضل، وكان وجهي ممتلئًا بالحيويّة والنشاط، وعضلات قدمي بارزة من الشورت الضيّق. لم أصدّق والدي حينما أخبرني بأنّ الحياة طعمها مختلفٌ في هذا العمر (كان لازم يكون محلّي ويشوف السعادة يلّي كانت بعيوني)، رفعت رأسي عن الحذاء وسألت بحماسةٍ: "شووو، شَب البستوني، بدك تنزل؟ رح يبلّش الماتش. أو متل العادة مستعجل ومشغول، مين قدّك هلق صرت بالجامعة، لولا إنك ابن عمي وربيانين سوا، لا كنت حكيتك ولا لعبت معك".
ضحكت من كلامي الطفوليّ، وأجبت نفسي بصوت جهوريٍ مشاكس: "منيح لي صارت صحتك منيحة لَقويت علينا، هلق عنجد صرت متل عَبسي بعدنان ولينا".
وكأنني أيقظت الوجع الكامن في داخلي بكلامي عن صحتي، شردت قليلًا وأجبت بحيرةٍ: "بتعرف، يمكن من سنتين لو ما تجي لعندي وتحكيني عن إم غسان، كنت بعدني عم بتعلعل لهلق من حكيم للتاني، عنجد، بوقتها كنت صاير تعبان بين الحكما والمشايخ لي بترقي والطبّ العربي ووصفاته المقرفة. لأ وشووو، أحلى واحد بيناتهن لي بتروح لعنده وبيرقيك وبيقول لإمّك: "الصبي عليه عين" ودموعه بتكون عم تشرّ، عشة بدهن يصيبوني بالعين على عيوني الزرق وسناني الفرق؟
قال حمّى البحر الأبيض المتوسّط.
من وين بينكشوا هالأسامي؟!"

*نشرت هذه القصة في المجموعة القصصيّة "أنا أسكن ضاحية بيروت الجنوبية"
*اللوحة للفنان الفرنسي أندريه ماسون -André Masson-