معلومات عن الكاتب

ياء الانتظار




كان بلدي لبنان يعاني، حتّى أنّي شعرتُ أنه ضاق بي أنا أيضاً. أصبحتُ عاجزة عن النوم، ما إن أضعُ رأسي على وسادتي الرقيقة حتّى يبدأ القلق يشغلني، وأنهض في اليوم التالي محمّلةً بمئة سؤال: لماذا لم أجد عملاً ثابتاً فور تخرجّي من الجامعة؟ ماذا أفعل بعد ست سنوات قضيتها في كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة أدرس اختصاص الفنون الاعلانيّة والتواصل البصريّ؟ لماذا لم تعد أمي تبتسم ابتسامة الصباح المعهودة؟ أذكر جيّداً كيف كانت تَتورّد وجنتاها البيضاء وتتقلّص قليلاً عيناها البنيّتان وهي توزّع بسخاء طاقتها الإيجابية في كل أنحاء المنزل. لماذا أصبحنا نعيش أوقاتنا في بيروت على الآلة الحاسبة، نحسبُ كل يوم كم أصبح سعر كيلو اللحمة، وليتر الزيت؟ كم الدولار اليوم؟ كم أعداد المصابين بفيروس كورونا؟ أو ننتقل من «غروب» على «الواتس آب» لصفحة التحكّم المروريّ على تويتر لنستدلّ على الطرقات السَّالكة من المُغلقة. حتّى الذهاب الى الجنوب كان يحتاج حسبة طويلة، هل هناك بنزين في المحطّات؟ هل طريق "الجيّة" مفتوحة؟

لن أطيل الحديث، ولكن دوامة القلق والتوتر كادت تقتلني. أغلقتُ حقيبة السفر من دون تراجع. لم أنظر للخلف ولا لنظرة واحدة. كنت أتوق الصعود إلى الطائرة لأنسى هموم البلد وكهرباءه وماءه وطرقاته. وهكذا فعلت. أتيتُ دون تردّد إلى حيّ السلم لكن مع أشجارٍ كثيفةٍ ومستنقعات بين شارع وآخر، وأزقّة ترابية، وشعب بثقافة وعادات مختلفة عن بلادنا. شعب فقير، لا يعرف سوى العمل والجهد ليُحصّل قوتَ يومه. أجره يكفيه لشراء خبزة «باغيت» واحدة وعلبة سردين. يعملون في كلّ شيء وفي أيّ شيء. هنا، النساء يعملن، الأولاد يعملون، المسنّون يعملون. باعة منتشرون على الطرقات، يعرضون الموز والفستق والكاجو والأناناس والمنحوتات الخشبية وأيّ شيء قد يخطر على البال. يبيعون وسادات النوم، خزانات توضيب الأحذية، سلال القشّ، حتّى أنه صادفني مرّة على جانب الطريق شاباً نحيلاً يحملُ جَرواً مرقّطاً للبيع.

وأنا أعبر من شارع  Rue de Canal -ورائحة الكاكاو تعبق بالمكان- وجدتُ أكثر من خمسة نجّارين يعملون على الأرصفة وما يزيد عن عشر نساءٍ على مصطبة خشبيّة يشوين السمك أو الموز أو عرانيس الذرة فوق براميل حديديّة. نادراً ما تنقطع الكهرباء، وكذلك المياه. الطقس الاستوائيّ محمول، أصادف لبنانيّ في كل دكان أو محل أو حتى عند الوقوف على إشارات السير التي يحترمها الجميع.

البلد جميلة، والناس طبيون. كان كلّ شيءٍ يسيرُ بهدوء؛ أبحث عن عمل عبر الانترنت أو عبر مجلة TAM-TAM الشهريّة، أجري بعض الاتصالات مع أصحاب أعمال لبنانيين في البلد أستحوذ أبي على أرقامهم نتيجة عمله في مطعم مشهور، وأنتظر.

بعد مضي شهرين على وصولي، أُغلقتْ عدّة طرقاتٍ في المدينة بسبب الاحتجاجات قبل الانتخابات الرئاسيّة. ليتها كانت كاحتجاجات بيروت. لقد هجم مسلّحون على عدة مراكزٍ للشرطة ولا أحد يعلم كيف انفضّت الحادثة بسلام. لم يكن شيئاً ينبئ بالخير. في الانتخابات الماضية من العام 2011، اندلعت حربٌ أهلية بين مُناصِري الرئيس Laurent Gbagbo ومعارضيه، ولم تكن لتهدأ لولا التدخّل الدّولي المباشر الذي قامت به فرنسا والأمم المتّحدة. حوصِرَ منزل الرئيس بالطائرات الحربيّة ليتنحى عن منصبه تحت الضغط. نعم، القرار هنا لفرنسا؛ ولها أن ترضى عن أشخاص وأن تغضب من آخرين. لماذا يقولون أنّ هذا البلد مستقّلٌ؟ أستحضرُ حال بلادنا عندما أفكّر أنّ هذا البلد قد تحرر من الانتداب! علمتُ أنّ حينها تمّ إجلاء اللبنانيين بطائرات إيرانية وقطرية بعدما أوقف طيران الشرق الأوسط رحلاته إلى هنا. في الانتخابات الماضية، «الزلمة ابن زلمة» لم يستطع النزول إلى الشارع. أكثرُ من مئة قتيل في اليوم، بالساطور machette وليس بالرصاص، مواجهاتٌ استمرت لأشهر بين الأحزاب.

كنتُ أستحضر المشاهد الأولى من فيلم Blood Diamond وأرتعب كلما أسمع قصص الحرب الماضية، والسرقات، ومحاصرة المباني السكنيّة، أو أصادف شاباً مبتور اليدين أو آخر فقد بصره بفعل الاشتباكات. وكلّما أسمع صراخاً في الشارع، أتوتر لأي خلاف من الممكن أن يحصل وأنا بعيدة عن بلدي. في إحدى الأيام، كنت جالسة ًعلى شرفة المنزل وشاهدت بأمّ عيني عملية سرقة: شابٌ عشرينيّ قصير يرتدي «تي شيرت» بألوان علم البلد، الأخضر والبرتقاليّ، (اللّونَين المفضّلين عند سكان ساحل العاج). كان السارق يجري بسرعة مبتعداً عن رجل عجوز نحيف يحاول جرّ قدميه ليلحق به وهو يصرخ بحرقة voleur voleur -أيّ سارق بالفرنسية. أمضيتُ أكثر من شهرين وعشرين يوماً دون الخروج وحدي من المنزل، «لأنه خطر» على رأي أبي، فهذه ليست شوارعنا الآمنة.

ليلة الرابع من آب لم أستطع النوم. جلستُ أمام شاشة التلفاز وخلف شاشة الهاتف من دون حركة ليومين. لم أشح نظري بعيداً عن الأخبار. أردت أن أعرف كلّ تفصيل يجري في مدينتي، كلّ اسم شهيد أو جريح أو مفقود، وكلّ شارع أو مبنى طاله الدمار. صدقوني -أو لا تفعلوا- لكن تمنيت لو كنت موجودة في بيروت لحظة الانفجار. أحسَست بالغربة حين سمعت تسجيلاً صوتياً لِورد تصرخ فيه بخوف وصوتها يرتجف: «انفجار، انفجار دخيلك يا الله». تمنيتُ لو كنت أنا من استقبلتها على باب المنزل وضممتها وهدّأت من روعها، وفي صباح اليوم التالي أكون قد حضّرتُ القهوة لي ولها ولأمي التي كانت كلّ يوم ترسل لي صورة لركوة القهوة النحاسيّة وتكتب وتضيف: "ناقصيتك". تمنيتُ لو أنّي أشاركهم فنجان القهوة الصباحيّ والأحاديث التي لا تنتهي حول حسابات البلد والدولار وكيلو اللحمة، عوضاً عن أن أشربها وحدي بعد أن يذهب أبي باكراً جداً إلى عمله، وأنا ما زلت لم أجد عملاً مناسباً.

* مقطع من «بريتيوم» التي تصدر خلال هذا العام (2021)، والتي كتبها خمسة كتّاب من خريجي جيل «نحن الكتابة» ضمن «ورشة الكتابة الإبداعية» في «دار- المجمّع الإبداعي» وهم: نور يونس، حسين شكر، محمد الصغير، جيهان حمّود وبشرى زهوة. وتعتبر الرواية أول تجربة روائية عربية يكتبها خمسة أشخاص معاً.




*نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 16 آب 2021

ياء الإنتظار (al-akhbar.com)

*الوحة لِـ طوني لوزايسو - Tony Luzayisu