معلومات عن الكاتب

عشر دقائق



عشر دقائق*

 

إنتهى دوام العمل عند الساعة العاشرة مساءً. كانت إبتسامتي كـ "شحبورة" بطيخ كبيرة، إنه نفس الشعور تحس به كل يوم في لحظة الإنتهاء من العمل، إنها لحظة الصفر التي تفصل بين السجن والحريه، شعور يدوم للحظات كأنك ستطير الى كون جديد، وستقوم بكل الأشياء التي منعت من فعلها خلال الدوام. تدور كل الأفكار والمشاريع في ذهنك حتى تخال أنك سوف تنتقل من حالة الفقر الى الغنى في تلك اللحظة، (مهلًا هل الجميع يفكر في هذه الطريقة أم أنا الوحيد الذي تدور في فلكه هذه الأفكار عند لحظة الخروج من العمل؟) كي لا نطيل الحديث، إنه محل لبيع وتأجير الـ DVD. صاحبه كريم أبو منصور، طويل القامة، نحيف الجسد، إختلط بعض الشعر الأبيض مع الأسود في مقدمة رأسه العريضة. إنّه التاجر الماهر الذي يدرك اسرار البيع والشراء، والذي يتمتع بطريقة إقناع مذهله، تجعل الزبون يشتري ويأخذ كل ما يعرض عليه. وللتوضيح أكثر، أنه يرى الناس التي تدخل محله كأكياس مليئة بالمال يجب إفراغها قبل أنا تخرج.

فعلًا هي لحظة إنتصار، ان تخرج من العمل قبل إنتهاء الدوام بقليل. كان سبب الخروج قبل الأوان المعتاد أن لكريم عزيمة في منزله وقد إتصلت زوجته مارلين، سمراء البشرة، متوسطة القامة، نحيفة جدًا، لدرجه تعتقد أنها ممنوعة من الأكل، أصولها من أفريقيا الجنوبيّة ولكنتها الفرنسيّة إختلطت مع العربيّة، لتكوّن لغتها الخاصّة. لقد إتصلت أكثر من مرّة تؤكد عدم عليه عدم التأخر، لأن المعازيم قد وصلوا.

صعدنا الى السيارة فكريم وللتوفير يوصلني الى المنزل كي لا يدفع لي بدل مواصلات. وبينما كنت غارقًا في أفكاري ومشاريعي الوهميه، قال لي: إنظر، إنظر الى مرآة السيارة يوجد خلفنا رجل يتفحص سيارته دائماً قبل أن يمشي بها.

فقلت له ببساطة: أليس هذا المريض الذي يتعالج عند الدكتور النفساني الذي لديه عيادة في الطابق الخامس في السنتر الذي نعمل به؟

قال بحماس واسنانه تظهر بسبب الإبتسامة العريضة التي رسمها على وجهه: بلى إنه هو، المريض.

 أكمل كلامه دون توقف، بالكاد كان يتنفس بين الجملة والأخرى:" ولكن إنظر الى حركاته المضحكة والمسليه، إنظر، أنه سوف يقوم بجولة حول السيارة، أرأيت؟ والأن سوف يأخذ وضعية القرفصاء وينظر الى الدوليب الاربعة واحدًا تلوى الأخر يتفحصها من اليمين الى الشمال، أرأيت؟ الأن سوف يفتح غطاء الصندوق ثم سيغلقه ويدور حول السيارة الى أن يعود ويفتح غطاء المتور، أرأيت؟" وبعد وصفه لتلك المشهدية، ساد صمته للحظات وتجمّدت إبتسامته وعيونه تلمع من شدّة السرور.

هكذا حدث فعلًا فكان الفارق بين كلام كريم وتصرفات المريض ثانيه واحدة، فإنك تسمع ما سيحدث، ثم ترى الحدث بالتفصيل، كمشهد من فيلم تشاهده بترقب وحماس.

قال لي كريم في تلك الليله أكثر من عشرين مرة: "أنظر" وكانت الكلمات التي ينطق بها تسبق الواقع، كأنه حفظ حركات وتصرفات ذلك المريض عن ظهر قلب، وكان حماسه في المشاهدة والنظر الى حال ذلك المريض يدخل المتعه الى قلبه حتى أنه نظر الى الساعة وقال بحزن وتأفف: إنها العاشرة، لدي معازيم في المنزل، يا لسوء حظي لا يمكنني أن أبقى طويلًا لأنظر بعد. يجب أن أمضي. ثم قال لي: كنت أود أن أبقى أكثر لمشاهدة المريض ولكنني للأسف لن أتمكن!

بعد أن مرت العشر دقائق داخل السيارة، وأنا انتظر لحظة الإقلاع كي أذهب الى منزلي وأرتاح، وبعد ذلك السناريو الذي حدث أمامي، كانت ردّت فعلي هي الضحك والإستهزاء، ولكن ليس على المريض الذي يعيش حياته الخاصة، إنما على كريم أبو منصور الذي راقب هذا الرجل قرابة المئة مرة ليتمكن من سرد الأحداث المتتاليه دون الوقوع في خطأ واحد، ولا حتى حركة واحدة من سرد التفاصيل، ثم سألت نفسي وأنا أنظر الى وجه كريم تارة ثم الى المريض تارةً أخرى: من هو المريض الرجل الذي يقف خارج السيارة أم الرجل الموجود داخلها؟

 

 

*القصة خاصّة بموقع دار- المجمّع الإبداعي

*اللوحة للرسّام الإيراني "هاني نجم"