معلومات عن الكاتب

موت سريري



 

كانت التاسعة والنصف ليلاً. في ليلة من ليالي كانون الباردة. دخلتُ الى غرفة الجلوس في منزلنا الكائن في بيروت تحديدًا في شارع السبيل. اقتربتُ من أخي علاء الذي يصغرني بسنتين. سحبتُ من بين يديه الخشنتين "جاط البوشار". نظر إليّ بعينيه الخضراوين محاولاً اصطناع نظرةٍ حادة. غلبته ابتسامته العفوية، ثمّ قال لي بنبرةٍ ساخرة:" ما بدك تبطليها هالعادة، ما بتعرفي تحطي بصحنك وتوكلي!". أجبته بصوتي الناعس وأنا أضع كمشة من البوشار في فمي: "هيك أطيب..عمري انت". ثمّ مسحتُ يدي بمنديلٍ معطّرٍ سحبته عن الطاولة الخشبية التي تتوسّط الغرفة. مدّدتُ جسدي المرهق من نهار عملٍ طويل على الكنبة مقابل التلفاز. رحتُ ألعب بخصلاتِ شعري الناعمة القصيرة والمبللة وأنا أنظر إلى سقف الغرفة. ذلك طقسٌ من طقوسي اليومية بعد العمل. يُشعرني بالراحة قبل أن أستسلم للنّومِ تماماً. سألني علاء بنبرةٍ شاردة وهو يضحكُ على مشهد من فيلم جعلتني مجرماً لِـ:"أحمد حلمي"عندما ينظرُ إلى بدلته المبلولة قائلاً بنبرةٍ كوميدية:" هِيَّ البدلة دي بيجيلها تبوّل لا إرادي ولاّ إيه"،"وين ماما و بابا؟!" أجبته وأنا أستعدُّ لـ"عطّسةٍ" قادمة:" نزلو عند جدّو". فاستطرد سائلاً:" ما قالولك أي متى راجعين". فتحتُ عينيّ بدهشةٍ ممزوجةٍ بالسُّخرية:" لا والله ما أعطوني برنامج تحركاتن حبيبي". جوابي ذلك جعل علاء يلتفتُ إليّ قائلاً:" ما أهضمك". ثمّ استطرد:"بدك الضو ولاّ أطفي". أجبتهُ وأنا على وشك اطباق جفنيّ:"اطفي".

 أغمضتُ عينيّ ولكنّني لم أنم. بدليل أننّي مازلت أسمعُ صوت علاء يقهقه كُلما مرّ مشهدٌ مضحك. لم أنَم ولكنّني أصبحتُ غير قادرةٍ على الحركة. أو الكلام. أنا غيرُ قادرةٍ على فتح جفوني حتى. بدأت دقاتُ قلبي تتسارع. شعرتُ وكأنما يُكبلني حبلٌ سميك. تعطّلت كلّ حواسي سوى السّمع. المشكلة أنني قلت لعلاء أن يطفئ النور. هذا معناه أنّهُ لا يراني. وطالما أنّه مشغولٌ بفيلمه ذاك، فمن المؤكّد أنّه لن يلتفت إليّ حتى. صرتُ أحدّثُ نفسي والرعبُ يسكن كل جوارحي: "أكيد أكيد أنا متت. أي اكيد. هياني ما قادرة اتحرك أو أعيّط حتى. وعم بسمع بس. أي صح كل العالم بقول انو الميت بسمع. يا الله معقول هادا الموت؟!" بقيتُ أحدثُ نفسي وشعوري بالرعب يزداد:" طيب ما حسيت روحي طلعت. ما شفت حتّى ملك الموت؟! كيف هيك؟ اه يمكن أوّل شي بيطعطلوا الحواس بعدين بيجي ملك الموت وبشوف حياتي التانية!". استسلمتُ لِقدري وبدأتُ أردّدُ في نفسي: "بسم الله يا الله يا الله". وفي لحظةٍ بدأتُ أتخيّلُ الكارثة التي ستحلّ على عائلتي بعد موتِ ابنتهم الشابة الوحيدة. كيف ستتلقّى أمي صدمة وفاتي غير المتوقّعة. مباشرةً تذكّرت كلماتها عندما كنتُ أمازحها:" بتزعلي اذا متت؟". فتُجيبني ببرودة أعصاب:" انتي موتي وما عليكي". ثمّ تخيّلتُ أبي الذي لا يبرحُ يُسمعني كلماته: "أي متى بدي أفرح فيكي وأشوف اولادك؟!" كيف سيغدو حالهُ بعد تلك المصيبة وأنا التي كنتُ أجيبُه ممازِحةً:" على شو مستعجل بدك تخلص مني". " يقبرني ان شالله. هلأ رح يخلص مني عطول". ثمّ تذكّرتُ أنني ميّتة:" ولي هلأ رح يقبرني عنجد كلها كم ساعة بس". "علاء"! سألتُ نفسي بحرقةٍ وغصّة: "المسكين رح ياكل الصّدمة أوّل واحد. يارب ما يخلص الفيلم قبل ما يرجعوا ماما وبابا. خلص خلص يارب بس هالليلة تمضى على خير. خليهن يناموا وهنّي مفكريني نايمة. يارب ما بدي اياهن يعرفوا هلأ إني متت خليها للصّبح أحسن". شعرتُ أن هذه آخر أمنيةٍ أو دعوةٍ أسألُ الله أن يحقّقها لي. لقد استسلمتُ لما أنا فيه. مازلتُ غير قادرة على الكلام والحركة. وما زال "علاء" منشغلاً بالفيلم. صرتُ أُفكّرُ بأمورٍ كثيرة:" لعمى الواحد بفكّر حتى وهوي ميّت؟!" سألتُ نفسي بدهشة. ثمّ صرتُ أتخيّلُ مراسم الجنازة والعزاء:" يا الله بيتنا صغير. كيف حيساعوا العالم؟". " إن شالله ما تيجي إم مصطفى جارتنا اللي عالتالت فش عزا اجت عليه غير بخشتلي طبلة دينتي بصواتها.. يارب يكون صوتها مبحوح ومكربة بكرا". وفجأةً تذكّرتُ أمراً عظيماً تغسيلُ الميّت! :" يا مشحّرة يا سهى معقول حدا يحممك وانتي عمرك 27 سنة. باطل عليي باطل هالحكي. يارب يكون انتبه علاء انّي تحممت وشعري كان بعدو مبلول. ان شالله ينتبه يقلهن بلكي بيعفوني من الحمام". كانت تلك أصعبُ فكرةٍ قد تخيّلتها!. قلتُ في نفسي "طيب رح أضلّ هيك وقت طويل. بعدني ما شفت ملك الموت". ما ان أنهيتُ هذه الكلمات حتّى سمعتُ صوتَ باب المنزِلِ يُفتح:" يا شحاري. أكيد إجو ماما وبابا". سمعتُ صوتَ أبي كعادتهِ عندما يدخُل إلى البيتِ على عجلٍ وهو يقول بصوته المخنوق:" محشور في حدا بالحمام؟؟؟!" وسمعتُ دبيب قدميه وهو يركض باتجاهه ليُريحَ نفسهُ من هذا العذاب. ثمّ سمعتُ صوتَ أمي تقتربُ من غرفة الجلوس بهدوئها المعتاد وصوتها الرقيق توجّهت بالكلام الى أخي:" شو أختك نايمة من زمان؟" أجابها:" صرلها شي نص ساعة".
سقطتُ أرضاً وأنا أسمعُ هذه العبارة. وانتفضتُ غاضبةً وأنا أصرخُ وأقول: "مين حطّ هالزفت عليي؟!"
التفتَ اليّ علاء بنظرةٍ لا مبالية: "نمتي بلا ما تتغطّي وحسيتك بردانة كتير. قمت جبتلك لحافين سماك. شو غلطت يعني. كان لازم أتركك تموتي من البرد". ثم حمل "جاط البوشار" الفارغ وتوّجّه الى المطبخ. نظرتُ إليهِ بعينينِ حمراوين غاضبتين: "لأ ما تموتني من البرد موتني رعبة أحسن"!  

 

*القصة خاصّة بموقع دار- المجمّع الإبداعي

*اللوحة للفنان "ماكسيم كرافت -Maksim Krapht "