معلومات عن الكاتب

والوردُ شاهد




كاد قلبه يقفز من الفرح حين وجد زهرة دوّار الشمس على باب متجر الأزهار، هادي الأنيق جدًّا، والذي لا يتخلّى عن نظّارته الشمسيّة الثمينة، تناول وردة دوّار الشمس ودخل بها إلى وسيم الأربعينيّ، صاحب المتجر الذي بات يحفظه جيّدًا، زبون الوردة الواحدة. طلب منه أن يلفّها له بورقةٍ شفّافة، وأن يربطها بشرائط من القشّ، وحدها دون أية إضافات. حمل الوردة مبتسمًا ولم يزِح عينه عنها من باب المتجر نحو باب السيّارة، وضعها على المقعد بهدوء وانتباه، وانطلق نحو متجر الحلويات.

ما إن دخل المتجر حتّى ابتسم له كلّ العاملين، توجّه كعادته مباشرةً نحو حلوى لفائف القرفة، أخذ واحدة بطعم القرفة السادة، فهي لا تحبّ نكهة الشوكولا حين تضاف إليها أبدًا. هي نجوى، "إمّ الجوج" كما كان يناديها، فيما كانت هي تتغزّل بعينيه الصغيرتين رغم عشقها للعيون الواسعة، كان هو لا يرى منها إلّا قصر عنقها، وفيما كانت هي تحدّثه عن تفاصيل الغمّازة الواحدة في خدّه الأيمن ماذا تفعل بقلبها حين يبتسم، كان هو لا يوفّر فرصة لجعلها تشعر بالامتنان من قبولها في علاقةٍ لم يضع يومًا اسمًا لها.

لم يكن حبّها الأوّل، ولكنّه كان الأكثر عصفًا بها، فهي منذ أوّل يوم التقت به في المصرف حيث تعمل، ومن اللحظة الأولى التي دخل فيها، شعرت بطاقةٍ ملأت المكان، كذّبتها في البداية، ولكن سرعان ما غرقت فيما يمتلك من "كاريزما"، وحسن تصرّف، وبات اليوم الأول من كلّ شهر، موعد زيارته إلى المصرف، موعدًا مقدّسًا لا تغيب فيه أبدًا. حدّثته يومًا من هاتفها الشخصيّ، بحجّة إخباره عن بطاقة جديدة أصدرها المصرف، ولم تصدّق حين حدّثها مساءَ اليوم نفسه عبر "الواتسأب" في أمور لا علاقة لها بالمصرف أبدًا.

كان ذلك بداية تعلّقها به، وكان ذلك بداية تمسّكه بفتاة شعر بإعجابه بها، فضمّها إلى لائحة المعجبات التي كلّما زاد عددها، ازداد هو زَهْوًا بجماله وافتتان النساء به.

مرّ هادي بمكتبة منيمنة في زقاق البلاط، اشترى بطاقةً مكتوب عليها "كِبر البحر بحبّك"، واشترى قلمًا أزرق، ثمّ جلس في السيّارة، وسنّد البطاقة على المقود وكتب عليها: "هالمرّة غير".

انطلق بسيّارته الجاغوار الحمراء، التي اشتراها بعد سيّارته البورش الفضّيّة التي تحطّمت بشكل كامل أثناء الحادث. كان في تلك الليلة خارجًا من الملهى بعد أن قذفت تلك الثرِيّة الشقراء أمال في وجهه بضع كلماتٍ عن استغلالها له ولنفوذ والده السياسيّ، وأنّها لا تراه رجلًا كما ترى الرجال، بل ألعوبة نساءٍ يعتقد واهمًا أنهنّ ألعوبته. لم تصدّق نجوى حين اتّصل بها ليلة الحادث، ليلة 10 شباط 2017، وطلب أن تلاقيه تحت المبنى الذي تقطنه في الحمرا وكيف صارت في سيّارته بسرعة البرق تمامًا كما كان يقودها. كانت نجوى فرحة به بقدر قلقها من سرعته الجنونيّة، ليلتها لم يقل سوى جملة واحدة، وهو ينظر إليها بنبرة لم تعتدها لديه "إنتي الوحيدة بالعالم اللي بتتحمّليني".

رنّ هاتفه أغنية "Ne me quitte pas"، وضع البطاقة بجانب الوردة وعلبة الحلوى، نظر إلى هاتفه، ضغط على زرّ وضعيّة الصامت وتركه يُطفئ ويضيء، ثمّ يطفئ ويضيء حتّى انطفأ تمامًا.

انطلق بسرعة أكبر، فقد كان متأكّدًا أنها ستسمعه هذه المرة، ستصدّق أنّه استفاق من غيبوبته، كما استفاقت هي بعد الحادث. لقد كان على يقين من مسامحتها له، هي التي سامحت والدها العجوز، صاحب متجر الخرضوات وصاحب أقسى قلب كما كانت تصفه، على تسبّبه بإصابة أمّها بالشلل حين دفعها في لحظة غضب، أمّها عليا التي أخذت عنها شعرها الكستنائيّ وحساسيّتها العاطفيّة المفرطة. لقد سامحت والدها وهو على فراش المرض، بعد أن قالت دومًا لهادي أنّ والدها هو الإنسان الوحيد على وجه الأرض الذي لن تستطيع مسامحته.

رنّ الهاتف مجدّدًا، فأغلقه نهائيًّا، لم يكن يريد حتّى لاتّصالٍ أن يشوّش تركيزه فيما حضّر من كلمات لنجوى، كلمات لم تسمعها منه قبلًا، فهذه المرّة كلّ شيءٍ غير.

لم يعرف كيف يمسك بالوردة والحلوى والبطاقة والهاتف ومفتاح السيّارة وكيف يقفل باب السيّارة ويسير إليها في آن معًا، دون أن يقع منها شيء، لا من كثرتها بل من ارتجاف يديه ارتباكًا.

لم يترك جملةً ممّا حضّرها إلّا ونطق بها أمامها، لم يترك تعبيرًا تحبّ سماعه منه إلّا وقاله لها، ثمّ انتظر دقيقة كاملة وهو ينظر إليها، دقيقة مرّت كالثانية، لم تلمس فيها وردة دوّار الشمس أحبّ الورود إليها، ولم تقبل أن تأكل قضمة واحدة من حلوى لفائف القرفة، حتّى إنّها لم تفتح البطاقة لتقرأ أنّ هذه المرّة غير.

أمسك بها، شعر بالصقيع، صقيع عينيها وكتفيها، هزّها وما اهتزّ شيءٌ فيها، صرخ بأوّل صوتٍ، أتبعه بصرخة ثانية، ثمّ بصرخات هستيريّة لا تحصى، حتّى شعر بيدين تمسكان بكتفيه، ترفعانه عن رخام القبر، كما في كلّ مرّة منذ سنتين، منذ اليوم الأوّل الذي تلا ليلة 10 شباط 2017.

 

 

*نشرت هذه القصة في المجموعة القصصيّة "دافنشي لا يجيد الكتابة"

*اللوحة للفنان ليونيد أفريموف - Leonid Afremov