أحمد مدلج
(الجيل السادس – ورشة الكتابة الإبداعية)
«انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله». بهذه السورة القرآنية (سورة التوبة، الآية 41) يستقبلنا كتاب "جمال عبد الناصر: من حصار الفالوجة.. حتى الاستقالة المستحيلة!" (1968، الطبعة الأولى للترجمة العربية، دار الآداب) الصادر في الأصل باللغة الفرنسية للكاتبين الفرنسيين جاك دومال وماري لوروا. لعل أكثر من جاهد بأمواله وبنفسه في سبيل الله كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فهو لم يناضل فقط من أجل مصر وحدها، بل ناضل في سبيل إحقاق الحق والعدالة الاجتماعية للشعوب المستضعفة؛ من فلسطين التي تقاوم الاستعمار الصهيوني إلى جميع دول العالم الجنوبي. يقدم الكاتبان في هذا النص قراءة موضوعية في حكم الرئيس عبدالناصر في مختلف محطات حياته تزامناً مع الأحداث العالمية والسياسية آنذاك والتي لا يمكن فصلها عن مجريات حياته، إذ إنها شكلت وطورت مفهومه ووعيه السياسي.
في مئتين صفحة مكونة من أحد عشر فصلاً لهم مقدمة وخاتمة ويسبقهم كلمة بقلم كمال جنبلاط، نتابع كيف تحول الغلام الصعيدي إلى زعيم عالمي. في البداية، يعرض الكاتبان دومال ولوروا الإطارَين التاريخي والإجتماعي من خلال تسلسل زمني يمتد أربعة قرونٍ وعقدٍ من الزمن، لتوضيح الظروف التي أدت إلى تخطيط عبد الناصر لثورة يوليو (1956) في وجه الملك فاروق. تعود هذه الظروف إلى العام 1559 حيث بدأ الغرب استعماره للدول الإسلامية عبر سيطرته على أهم الطرق التجارية. وظهر تنافس شديد بين دول الغرب الاستعمارية من البرتغال وبريطانيا وغيرهم على التحكم بتلك الطرق ونهب الثروات. وجراء العنف والوحشية الشديدة التي تفاخرت وتنافست فيها هذه الدول، أدى ذلك إلى نشوء مقاومة شعبية لمواجهة الاستعمار كرد فعل طبيعي من قبل العالم الإسلامي كما حدث في ليبيا عندما كافح الليبيون ضد المستعمرين الإيطاليين. ولم تستثنى مصر من تلك المواجهة، فقد شهدت فترة ما بين عام 1800 و1877 سنوات تكوين القومية المصرية غير المنفصلة عن محيطها وتاريخها الإسلامي؛ من الشيخ محمد عبده إلى جمال عبد الناصر، والهدف واحد هو طرد الاحتلال الإنكليزي وعملائه. كان الشعار الذي أطلقه الشيخ محمد عبده عام 1881 بطرد المحتل قد تحقق من قبل غلام كان يتصدى لضربات شرطة في خدمة المحتل وهو جمال عبد الناصر. فمن مشاركته بالمظاهرات الطلابية إلى التحاقه بالكلية الحربية حتى الانتقال إلى الجبهة في حرب فلسطين والعودة مجدداً إلى مصر، كل ذلك كان لهدف واحد؛ الثورة.
جاء تشكيل فرقة الضباط الأحرار التي نجحت بطرد الملك فاروق من دون معاقبته، بعد المجازر التي شهدها عبدالناصر في فلسطين والتخاذل الدولي والعربي في هذه القضية العربية. ما إن استلم جمال الحكم حتى بدء بتنفيذ خططه الإصلاحية والزراعية وتحسين ظروف المواطن المصري، رغم الانتقادات وتحالف الشيوعيين والإخوان المسلمين لمعارضته؛ ولم يكونوا الوحيدين. رغم عدم اتخاذ موقف مباشر معاد للعدو الإسرائيلي ورغم التوجه إلى جميع السبل الديبلوماسية والمجتمع الدولي، واجه عبدالناصر عدواناً إسرائيلياً بالإضافة إلى عدم تجاوب الولايات المتحدة الأمريكية لطلبات شراء السلاح وقروض بناء مشاريع عدة. كل ذلك يؤكد سياسة الغرب والعدو الإسرائيلي التي تسعى باستمرار إلى عدم خروج أي دولة من فلك المنظومة الغربية، وعدم تحقيق اكتفاء ذاتي وتطور على جميع الأصعدة. والدليل على ذلك هو العدوان الثلاثي بعد قرار تأميم قناة السويس لتمويل مشروع السد العالي، التي خرج منها عبدالناصر منتصراً يسعى بعدها إلى تحقيق وحدة عربية مع سوريا. ورغم إنجازاته العظيمة واجه الرئيس عبدالناصر مشاكل عدة أبرزها في تلك الفترة فك الوحدة التي دامت لثلاث سنوات فقط، فانفصلت سوريا عن مصر وقرر الرئيس عبد الناصر عدم التدخل حقناً للدماء وحرصاً على وحدة الشعب السوري.
اعتداء العدو الإسرائيلي على الأردن ولبنان وسوريا، بدعم عسكري من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تطمع في السيطرة على البترول العربي ومواجهة أي دولة عربية صاعدة تندد بالوحدة وبتأميم الثروات، وغيرها من الأحداث مهدت للعدوان الثلاثي في العام 1967. كان واضحاً تحريض عبد الناصر لخوض حرب لم يكن جاهزاً لخوضها، على عكس العدو الإسرائيلي الذي كان بأتم الجهوزية ومدعّم عسكرياً واستخباراتياً لضرب سوريا ومصر. ورغم الخسائر التي تلقتها كل من مصر وسوريا إلا انّ وبحسب الكاتبَين (وبخلاف العديد من المحللين العرب الذين نددوا وبشدة نتائج حرب الـ67 باعتبارها نكسة، وحملوا كل العبء واللوم على الرئيس الراحل من دون أي دراسة موضوعية للظروف التي أدت لفرض حرب لم يكن عبدالناصر جاهزاً لخوضها) فإنّ المقاومة الباسلة لكل من الجيشَين والشعبَين المصري والسوري لم تسمح للعدو الإسرائيلي بتحقيق كامل أهدافه ولم يكن انتصاراً له، بل هزيمة أيضاً. قارن الكاتبان جاك دومال وماري لوروا نتائج حرب الـ67 بنتائج سقوط فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية عام 1940 "إن المعركة الخاسرة لشهر يونيو 1967 تمثل هزيمة صغيرة بالمقارنة مع أحداث مايو 1940" (ص 170).
بعد نتائج المعركة قرر عبد الناصر الاستقالة من منصبه رئيساً لجمهورية مصر العربية، القرار الذي ولّد مظاهرات حاشدة تندّد باستقالته وتحثّه للعودة إلى الرئاسة. ولعل "الاستقالة المستحيلة" تلخص فكرة الكتاب وسيرة الرئيس جمال عبد الناصر الذي رغم كل الأخطاء والخيارات الحساسة والصعبة التي اتخذها، لم يتخلَّ عن مسار العدالة والتحرر ووبناء دولة مستقلة من قيود الاستعمار، ولا عن حلم الوحدة العربية وتحرير فلسطين بعيداً عن المكاسب الفردية والأنانية وتراكم الثروات.
(نُشر في تاريخ 16-02-2023)