الريجيم الثقافي

عندما تَصدق اللعبة




جنى مشلب (الجيل السادس – ورشة الكتابة الإبداعية)

"يحبّني أو لا يحبّني، يحبّني أو لا يحبّني.. " كم كان الأمر ليبدو سهلًا لو أنّنا نستطيع معرفة أقدارنا من خلال لعبة عدّ ورَيقات الورود، أو معرفة جنس المولود بحسب حركة دوران الخاتم المعلّق بطرف شعرةٍ من شعيرات الأم، أو التنبؤ بعدد الأولاد الذي ستُرزق به كل فتاة وفقَا للعبة المسمار المعلّق بخيط! لكن مهلًا لحظة.. ماذا لو كان هذا صحيحًا وممكنًا؟ ماذا لو صدقَت النبوءة؟

"خيط البندول" (دار نوفل،2022) هي رواية للطبيبة السورية وأخصائية التوليد المقيمة في ألمانيا نجاة عبد الصمد، الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية (2018) عن روايتها "لا ماء يرويها" (ولديها روايات أخرى بعنوان بلاد المنافي، غورنيكات سورية، في حنان الحرب، ومنازل الأوطان). تنقسم "خيط البندول" إلى ثلاثة أجزاء أساسية بحسب السنوات (1993-2007-2010) وتمتد على 305 صفحات.

بدءًا من العنوان "خيط البِندول" فقد يختلف المعنى بشكل كلّي اذا ما لم يُحرّك حرف الباء في كلمة "البِندول" بالكسر، ويشتق هذا المصطلح من كلمة Pendelum الذي يدّل على كل جسم معلّق بمحور أفقي ويتحرك ذهابًا وإيابًا مارًا بموضع استقراره في الوسط. وتستعمل الكاتبة هذا العنوان نسبةً للعبة خيط البندول أي المسمار المعلّق بخيط، اللعبة التي تشاركتها الشخصية الرئيسة في الرواية مع صديقاتها في مرحلة الطفولة.

تدور أحداث القصة حول الطبيب النسائي "أسامة" ابن الموظف الخلوق "يوسف" الذي أورث ابنه بعضًا من أخلاقياته العالية وهدوئه واتزانه. تخرّج" أسامة" من جامعة العاصمة طبيبًا بعد أن أقنعته أمه شهلا، التي حملت بيتها وعائلتها على ظهرها بضرورة التحاقه بكلية الطب كي يحيا حياة كريمة تجعله يأكل اللحم بدلًا من البرغل. عاد أسامة ليمارس مهنته في بلدته زعفران بعد أن تزوج من "نداء" المهندسة التي استشهد والدها حين كانت في السادسة من عمرها. أَمِل الزوجان بناء بيتهما خطوةً بخطوة من دون طلب العون من أحد، واتفقا على إنجاب ثلاثة فِراخ -كما فضّلت نداء تسميتهم وتصويرهم-لكن عندما عاد "أسامة" من خدمته العسكرية ذات يوم ووجد "نداء" في المستشفى بلا زوج أو طبيب، وبلا مبيض بدأت أحلامهما بالتلاشي. وبالرغم من الوضع المادي الصعب، قررت "نداء" السفر إلى عمَان وأوصت زوجها بألا يخبر أحدا بمحاولاتها بزرع أجنتهما في رحمها عبر الطب الحديث آنذاك.

في الجزء الأول من الرواية، كانت سرعة تسلسل الأحداث (ما يُعرف بالـ pace) في الرواية هادئًا وبطيئًا إلى حدٍ معيّن إذ أن الكاتبة أرادت لهذا العمل أن يكون حقيقيًا ومن صميم الواقع. غاصت عبد الصمد في عوالم أبطال قصص الآخرين وأصحاب الأحداث الصغيرة الذين مرّوا في حياة الثنائي، لأنّنا لم نكن يومًا "وحدنا" محور الحكايا؛ لذا رفضت أن يمر ذكر الطبيب "أدهم" مرور الكرام دون أن تخبرنا كيف حصل على منحة الدراسة في موسكو بعد أن عاش في كنف الخالة "جدعة" التي أفنت عمرها في تربية "كتيبة" (الأولاد العشرة) لأختها "المجنونة".. بالإضافة إلى قصة "فريدة"، صديقة "نداء" التي استسلمت لمشيئة البندول فتوفت متأثرة بمرض السرطان، وصولًا إلى قصة "وردة" التي أصبحت خادمة جدتها، وغيرها من القصص الجانبية التي روتها الكاتبة. أما "نداء" فقد بقيت طوال هذه الرحلة التي ولد فيها أشخاص ومات فيها آخرون، تعيد المحاولة مرة بعد أخرى غير آبهة بالطريق الذي تسلكه مقابل النتيجة المرجوّة، ودفعها ذلك إلى إعادة العملية نفسها عشرون مرة! وفي النهاية يصدق المسمار المعلق من رقبته بالخيط.

يحدّث الطبيب "مختار"، الأب الروحي ومعلّم أسامة، قائلًا: "يتساءل عشّاق القراءة نقّاد الأدب عن غرابة الهوى بين الأطباء والكتابة بينما الغريب ألّا يكون الأطباء جميعهم كتّابًا، وهم شهود الحكايات الأثقل من صخرة موسى". وفي هذا تأكيد لروعة المزج بين مهنة الطب التي مارستها الطبيبة نجاة عبدالصمد لربع قرن، وبين صنعة الكتابة التي نتج عنها رواية اشترك جميع أبطالها بحصولهم على نقطة الانطلاق إلى الحياة؛ أو ما يعرف "بالولادة" باختلاف الظروف والأساليب كما اتجاه الرحلة والنهاية. فكل ما نشترك به هو أننا نولد آدم ونموت آدم.

 نُشر في تاريخ: 14-02-2023