الريجيم الثقافي

خلف تجربة الكتابة




نـــــور يـــونـس

(الجيل الثالث – ورشة الكتابة الإبداعية)

"كيف تستيقظ الأحداث في ذات الكاتب؟ وما هي النقاط الأساسية التي تشكّل الخط الدرامي لأي عملٍ روائي؟ بل كيف يولد العمل الأدبي بعينه؟"

تطالعنا هذه الأسئلة الثلاثة في مقدمة كتاب "في تجربة الكتابة" (الترجمة العربية، دار المدى، 2001) لكي يجيب عليها الكاتب "س.ر.مارتين" (اسم مستعار)، من خلال سلسلة مقالات اختار ضمّها بين طيّاته. كان مارتين قد نشر تلك المقالات في صحيفة "العالم يوم الأحد" الألمانية بمعدّل مقال واحد في الشهر، عرض فيها عشر روايات حصدت نجاحاً عالمياً لكتاب مرموقين وطبعت منها آلاف النسخات بالإضافة إلى ترجمتها إلى العديد من اللغات.

فكم منّا راودته أسئلة عن القصة الكامنة وراء السطور الشيّقة لروايات شهيرة مثل "الشيخ والبحر": هل ولدَت بمحض الصدفة؟ كيف بدأ الكاتب بسردها؟ لأي غاية؟ كيف اختار الشخصيات والزمان والمكان؟ وماذا عن ردة فعل دور النشر والقراء والنقاد؟

أجوبة كثيرة متناغمة أحياناً ومتناقضة في أحيانٍ أخرى، جمعها مارتين بمحض المصادفة من علاقات شخصية مرّت في مراحل مختلفة  من حياته. أراد الكاتب إظهار فكرة أنّ القصّة متجذرة في ذات الكاتب، في ماضيه ومحيطه الإجتماعي، وفي مكان احتواه أو مخيلة أطلقها تحت ظروف معينة. يشير مارتين إلى أن الكاتب الأميركي إدغار رايس بوروز، كتب سلسلة رواياته عن "طرازان" وهو في سنّ الثلاثين بعدما أضاع ما يقارب ثماني عشرة فرصة عمل، بالإضافة إلى فشله في احترافه كلّ أصناف الحرب. هرب بوروز من الواقع إلى خياله الخصب وأنتج روايات تُرجمَت إلى 56 لغة. كان دائماً يُجيب الصحافيين عن السؤال:"ما هي وصفة النجاح؟"، بسبعة جمل مختصرة أوّلها: "إنسان خائب الأمل"، وآخرها: "إنسان يخوض بمواضيع غير مفهومة."

هل هذه هي فعلاً وصفة النجاح؟

أم من الممكن أن تكون قضيّة يحملها الكاتب على كتفيه، ويعتبر نصوصه كالسلاح في وجه الظلم؟

هكذا اعتبرت "هارييت ستو" روايتها "كوخ العم توم" بمثابة رفع الصوت من أجل الحرية والإنسانيّة. اهتمَّت ستو بقضية العبودية والاتجار بالبشر وكتبت عنهما حتى أحدث كلامها ثورة. ويظهر ذلك في ما قاله الرئيس الأميركي ابراهام لينكون بعد مقابلته للكاتبة: "إذاً هذه هي المرأة التي أضرمت حرباً؟"

كيف يبدأ الكاتب روايته؟ بمخطط وتدوين أم بسرد عشوائي؟ لكلّ كاتب طريقته الخاصة، على سبيل المثال: الكاتب الألماني توماس مان في روايته "أسرة بودنبروك"، قام بتسليع شخصيات حقيقية من ضمنها خالته، وأجرى بحوثه عن الأماكن في "لوبيك"، ثمّ قام بتدوين لانهائي لملامح الشخصيّة.

في عالم الجريمة تختلف الأنماط، لكنّ النتيجة واحدة: رواية ممتعة! يدوّن جورج سيمنون تحضيراً لروايته "مقتل بيلا" كلّ ما يتعلّق بالشخصيات على شكل مخطط: أسماؤهم التي ينقلها من دليل الهاتف، مظهرهم، سنّهم، ظروفهم الحياتية، وعلاقاتهم العائليّة. أمّا الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي فهي تشبّه الكتابة بعمليّة حسابية، ففي روايتها "روجر آكرويد" تختار الريف الإنكليزي بخلاف الروايات التقليدية البوليسية التي تدور أحداثها في مدينة لندن الضبابية، وتبرع في تعقيد الأحداث حتى يعجز القارئ عن اكتشاف هوية القاتل. فيما يكتب الإنكليزي ادغار والاس بعجلٍ وتحت ضغط. يُعرف عنه أنه يستطيع كتابة ثلاثة آلاف كلمة في الساعة الواحدة، وانه احتاج لينهي روايته "الخائن" المؤلفة من مائة ألف كلمة إلى: أربعة أيام وأربعين كوباً من الشاي الساخن في اليوم، بالإضافة إلى مائة سيجارة.

لكلٍ من كتّاب هذه الروايات قصّة كانت سبباً لكتابة تحفة من تحف الأدب الروائي. أرنست همنغواي على سبيل المثال، كان ينعزل عن العالم حين يكتب، يرفض استقبال الضيوف ويضع لافتة أمام بيته تقول: "يمنع الدخول دون موعد". كان يكتب بقلم رصاص، يقرأ ويحسّن ويصحح أكثر من ثلاث مرات، ثمّ يحذف الجمل غير المتينة. اعتبر همنغواي الكتابة حرفة وليست موهبة، أي بإمكان أي شخص تعلمها. فيما فرانسواز ساغان، الفتاة ذات الثمانية عشر عاماً والتي رسبت في البكالوريا، لم تكن تمتلك الكثير من التجارب للكتابة عنها، فقررت أن تكتب عن التجارب التي تود خوضها ومعايشتها. أحدثت روايتها -التي وصفت بالجريئة- "صباح الخير أيها الحزن" ضجة في فرنسا. كتابة يدويّة على الدفاتر المدرسيّة بروتين كل يوم ساعتين، أوصلت ساغان لأن تصبح بين ليلة وضحاها "كاتبة مثيرة للجدل".

بعضٌ من جوانب سيرة الكاتب الذاتية، علاقاته الاجتماعية، مهنة مارسها، هواية أتقنها، أو حادث تعرّض له، جعلت من مؤلفاته حديث الصحف والنقاد. بسبب حادث سيارة، صمَّمت الأميركية مارغريت ميتشل -طريحة الفراش- على تأليف روايتها. وأيام طوال وهي تنظر إلى دفترها والقلم في فمها. بدأت من النهاية، من مجموعة الجُمل التي ستكون في نهاية الكتاب. ترددَت في كتابة الفصل الأوّل: "لماذا يتحتم عليّ كتابته؟ ما دام لا أحد سيقرؤه". ماذا بعد كلّ ذلك؟ "ذهب مع الريح" أصبحت رواية خالدة يقرؤها الملايين، وفيلماً مأخوذاً عن الرواية يشاهده كثر مراراً وتكراراً كلما أعيد عرضه وكأنه يعرض للمرة الأولى.

بينما كتب الألماني إريش ماريا ريمارك روايته الشهرية "لا جديد على الجبهة الغربية" بعجلة ومن دون تفكير؛ كأنه مصاب بحمى. جاءت روايته الحربية بمثابة "سلمية" ضد الحرب، وكان ذلك مكروهاً عند الألمان، لكن حين نُشرت تفاجأت دور النشر بردود الفعل الإيجابية واهتمام القرّاء بقضيّة الحرب! لكن الحقيقة هي أنّ القراء اهتموا بالطريقة التي تناول فيها ريمارك حديثه عن الحرب، لا بموضوع الحرب بحد ذاته.

 

في النهاية، ومن خلال عرض مارتين: "لا شيء لا يولد"؛ فلكلّ رواية خطّ درامي مرّ الكاتب من خلاله، خلّف عملاً أدبياً يعيش مئات السنين وخلّد سيرته إلى الأبد. فكما وصف توماس مان: "إنّ الكتابة شيء لا يمكن التلاعب به.. إنّها ليست عملاً يختاره المرء متى شاء.. الكتابة هي اللغة بعينها." هل هي فعلاً كذلك؟ أم باختلاف أساليب المؤلّفين تختلف معها تجربة الكتابة بعينها؟

نُشر بتاريخ 21-02-2022