الريجيم الثقافي

تميمة العاشقات: بين الغابة والأثير




جنى مشلب

(ورشة الكتابة الإبداعية – الجيل السادس)

ليس هناك من شكّ في أنّ علم الوراثة والجينات اليوم يستطيع تبيان ارتباط جينات أي شخص بأسلافه القدامى وليس فقط بوالديه البيولوجيين، لكن إلى أي مدى سيطول هذا الاتصال لما بعد الحبل السريّ؟ جيلٌ واحد أو اثنين، ربما ثلاثة.. لكن ماذا لو قيل لنا بأننا مازلنا على ارتباطٍ بمن تمّ تحنيطه لأكثر من ثلاثمئة عام؟ ماذا لو كان هناك قرط ياقوت يجمعنا بكاهنة معبد، لم يتبقَ من أثرها سوى جسدٌ محنط وبعض النقوش الهيروغليفية على تابوتها، وحكاية ستظل مجهولة ما لم تروها بنفسها.

"تميمة العاشقات" (إصدار الدار المصرية اللبنانية ،2022)، هي رواية قصيرة للكاتبة اللبنانية لَنا عبد الرحمن، الحائزة على درجة دكتوراه في الدراسات الأدبية عن موضوع السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية. لها مجموعة من المؤلفات منها: حدائق السراب، تلامس، ثلج القاهرة، قيد الدرس، ومجموعة من المقالات في القصة العربية وقراءات نقدية. ما يميّز كتاب "تميمة العاشقات" هو فكرته المغايرة إلى حد سواء إذ أن الكاتبة انتقلت فيه عبر الزمن من العام 1542 قبل الميلاد إلى ما بعد عامنا هذا (2023 م) بأعوام قد تصل إلى سنة 2050 أو أكثر، من خلال 221 صفحة فقط، مقسّمة على سبعة خيوط فضيّة بمثابة فصول.

تتمحور أحداث الرواية حول ست نساء من أجيال مختلفة وتنقل حكاياتهن عبر لسان "زينة"؛ الراوي الخارجي الذي يجول في فلك الرواية وفي ذاكرة كلٍ من النسوة في الوقت عينه. زينة بدورها قادمة من المستقبل إلى وادي التأمل، المستقبل الذي أصبح محكومًا بشرائح إلكترونية بحيث أصبح الانسان الآلي قادرًا على التحكم بمصائرنا، تصرفاتنا، أهوائنا، وحتى أحلامنا أو أفكارنا التي ما بين الحلم واليقظة.

تنطلق أحداث الفصل الأول من أراضي مِصر في زمنٍ قبل الميلاد، حيث حط الاختيار على الحسناء "آلارا" الشديدة الجمال لتكون زوجةً للإله "حابي". لكنها خالفت مشيئة الإله وهربت بإشارة من طائر هدهد أيقظها من نومها ذات صباح فتبعته، والتقَت بمراكبي شاب يُدعى "جيما" اعتنى بها في مرضها وأوصلها إلى وجهتها، نحو معبد ايزيس (أم الطبيعة). هناك استقبلتها تايا كاهنة المعبد ونبأتها برسالة ايزيس العظيمة التي خلّصتها من الزواج مقابل خدمتها في المعبد. اعتنَت آلارا بالمعبد وبالكاهنة "تايا" وحاولت قدر المستطاع تعلم الطقوس كي ترد الجميل، لكنها ارتكبَت خطيئة للمرة الثانية بعد فرارها من إله النيل أسفرت عن انجابها لطفلتين من الشاب جيما الذي هام حبًا بها منذ اللحظة الأولى. وبالرغم من اعتبار تايا بأن خطيئة آلارا جلبت اللعنة إلى المعبد خاصة بعد زحف الجيوش الغازية نحو المدينة، إلّا أنها استطاعت تضليل حقيقة الطفلتين اللتين وجدتا أمام المعبد وخلفت تايا فأصبحت راعية المعبد. كما أن الكاتبة لنا عبدالرحمن أشارت إلى حقيقة سرقة تابوت خادمة ايزيس إلى باريس ثم إعادته لاحقًا إلى مصر.

تنتقل الكاتبة مباشرةً إلى القاهرة في العام 2013 ميلادي مع "آلارا الحسيني" التي حملَت اسم خادمة المعبد المصرية امتثالًا بها، إذا أن والدها حازم، عالم الآثار، لطالما أُعجب بشجاعة آلارا الأولى. وقد امتلكَت خليفتها بالاسم الشجاعة الكافية لتتغلَّب على احباطها وفقد شغفها بالرسم بعد وفاة والدها وأمها "ميري" حديثًا، فسافرت إلى الهند لكي تتعلم فن الخط؛ علّه يعيد تجديد وإحياء أفكارها. في الهند تمتعت بالصفاء والهدوء في أحضان الطبيعة، كما شعرت بالأمان في كنف العائلة الهندية المسلمة التي كانت تتردّد إليها قبل أن تصبح مرشحة لمنصب زوجة ثالثة. يعود بنا الخيط الثاني في الرواية إلى والدة آلارا، "ميري مجيد" التي فقدت ذاكرتها في نهاية عمرها وكان هذا سببًا لوفاتها. لكن زينة أدركت أنها شبيهة جدتها لا أمها، كما كانت جدتها نفسها شبيه جدتها الأرمنية "آني" التي فرت مع عائلتها من باكو إلى لبنان بعد أن نشبت حرب في موطنها، كان أحد أسبابها وقوعها في حب رجلٍ مسلمٍ لم يستطع الدفاع عن حبهما. وبعد مرور أعوام عديدة، عادت والتقت به ثم وُلدت آسيا في لبنان ثمرة مراد وآني التي أخفت هوية والد طفلتها الحقيقي عن الجميع حتى عنه نفسه. لينتهي بذلك الخيط الرابع.

تكمل زينة رحلتها في ذاكرة الهوى والأثير وصولًا إلى العراق حيث تنتقل مع "رحمة" بين بغداد والموصل. ويجب الإشارة هنا الى أن هذا الانتقال كان بمثابة هوة وثغرة كان لا بد من العمل عليه أكثر لينساب مع سياق القصص السابقة. رحمة التي شهدت انتشار مرض الطاعون الذي فتك بعائلتها بالكامل، ونشوب الحروب والغزوات التي أيضًا قضى زوجها في إحداها. لكن معاناتها لم تنتهِ هنا، فبعد أن لجأت إلى الكنيسة، تعرفت إلى شابٍ مسيحي يحب الترحال والسفر اسمه "هوفان". أعجبَت به وتزوجته، وانجبت أطفالًا منه لكنها خافت أن يخطفه حب السفر والحرية منها، من دون علم بأنّ الموت هو الذي سيبعده عنها.

أمّا الخيط الفضي السادس، فبطلته كانت في القِدم "سولاي" لكنها سرعان ما أصبحت تدعى "شمس الصباح" بعد أن تم اختطافها في صغرها من كنف عائلتها الإسبانية. عُرضت في سوق مدينة إشبيلية وبيعَت لعجوز علّمتها ما يجب تعليمها إياه واهتمت بها الى أن جاء أمير لشرائها نظرًا لجملها وقدرتها على الغناء والعزف. أمضت فترة جيدة في ذاك القصر بحلوّ ملوكه ومرّهم حتى تقدم لها طبيب يُدعى محمد. وافقت شمس على زواجه واستقرت في داره وأنجبت تسعة أطفال، من بينهم رحمة. وبالرغم مما عانوه من تشرد وحروب الّا أن حياتها معه كانت جيدة، لينتهي بها المطاف في لبنان وطائر الهدهد يحوم حولها، الهدهد الذي بدأت منه أولى الحكايا وانتهت آخرها.

استهلَّت الكاتبة روايتها باقتباس للأديب الألماني غونتر غراس :"لا تمضِ إلى الغابة؛ ففي الغابة غابة ومن يمضي إلى الغابة لا يُسأل عنه في الغابة". للوهلة الأولى قد يبدو الاستعانة بهكذا قول غريب بعض الشيء، لكن عندما تكتمل الأحجية تتشكل الصورة وتشرح زينة عن رحلتها التي انتهت في نفقٍ تحت الأرض حيث وُجدت غابة استقرَّت فيها جميع جداتها بمن فيهن تلك الأولى التي تغطي نفسها بجلد خروف وترقص حول النار وتأوي في كهف. استدلت آلارا على حفيدتها القادمة من المستقبل عبر الإشارات المرسلة من قرط الياقوت الذي كان بحوزتها. ليس هذا الرابط الوحيد بين الرواية والاقتباس با إنّ الأحداث والشخصيات كانت تتشعب وتتداخل بعضها ببعض كما تداخل أعشاب وأشجار الغابات الكثيفة، ولكن يُلحظ للقارئ أنّ الربط بين كل تلك الشخصيات كان مباشرًا جدًا. لعلّ ما كان ينقص هكذا نوع من الروايات هو القليل من التأنّي في تجسيد الفكرة والعمل أكثر على أسلوب طرحها، إذ أن هذا العمل كان ليبدو أفضل بكثير لو تُركت هذه الخيوط للقارئ فيستنتجها بنفسه، أو ربما لو كان الربط محبوكًا بتأنٍ أكثر لكانت الرواية أكثر جذبَا وتشويقًا لأن فكرة الرواية متميزة وتحتمل المزيد من السبك في أحداثها. ويمكن القول أن استعمال الأقراط في الرواية كان ذكيًا، فالكاتبة جعلت من الأقراط شيئًا ملموسًا انتقل عبر الزمن وكان حاضرًا في معظم القصص، ولو أنها اعتمدت تفاصيل أخرى مماثلة، لكان النص انساب بسلاسة أكثر.

أخيرًا، بالرغم من وجود بعض الثغرات التي كان يمكن للكاتبة تفاديها من خلال جعل الأحداث محكمة ومترابطة أكثر، الّا أن هذا لا يخفي حقيقة كون الفكرة العامة للرواية مبتكرة؛ فليس من السهل لأحد أن يتحمّل ذكريات الآخرين المتنوعة والغريبة، فكيف لزينة التي قامت باللحاق بهم ومواجهتهم؟

 

نُشر بتاريخ 19-04-2023